الحمد لله.
أولا:
محاكاة الناس في أصواتهم وحركاتهم بغرض الضحك واللعب يكون غيبة إذا كره الناس ذلك؛ لما روى مسلم (2589) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟) قَالُوا : اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ)، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: (إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْتَهُ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ).
والغالب أن المحاكاة تجر إلى ما هو محرم ، كالسخرية أو التقليد بصورة يكرهها المقلد.
وقد روى الترمذي (2520) عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: " حَكَيْتُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالَ: (مَا يَسُرُّنِي أَنِّي حَكَيْتُ رَجُلًا؛ وَأَنَّ لِي كَذَا وَكَذَا)، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ صَفِيَّةَ امْرَأَةٌ - وَقَالَتْ بِيَدِهَا هَكَذَا - ؛ كَأَنَّهَا تَعْنِي: قَصِيرَةً!! فَقَالَ: (لَقَدْ مَزَجْتِ بِكَلِمَةٍ لَوْ مَزَجْتِ بِهَا مَاءَ البَحْرِ لَمُزِجَ) وصححه الألباني.
قال السندي، رحمه الله: " قوله (حَكَيْتُ رَجُلًا) أي: ذكرت حاله بالفعل بأن فعلت كما كان يفعل مما فيه شين (فَقَالَ لَقَدْ مَزَجْتِ) بالخلط لها، أي: خلطت بها عملك (مَزَجَتْ) بالتأنيث، أي: غلبت هذه الكلمة ماء البحر لو خلط ماء البحر بها، أي: تغير، أي: تغير ماء البحر بها، أي: تغير ماء البحر من قبحها" انتهى من "حاشية مسند أحمد" (24/110).
وقال في "تحفة الأحوذي" (7/176): "قوله (ما أحب أني حكيت أحدا) أي فعلت مثل فعله. يقال: حكاه وحاكاه، وأكثر ما يستعمل في القبيح المحاكاة كذا في النهاية (وأن لي كذا وكذا) قال الطيبي جملة حالية واردة عن التتميم والمبالغة أي ما أحب أن أحاكي أحدا ولو أعطيت كذا وكذا من الدنيا...
قال النووي: ومن الغيبة المحرمة المحاكاة بأن يمشي متعارجا أو مطأطىء رأسه أو غير ذلك من الهيات" انتهى.
وقال النووي رحمه الله: " فأما الغيبة : فهي ذكرك الإنسان بما فيه مما يكره ، سواء كان في بدنه، أو دينه أو، دنياه أو نفسه، أو خَلقه، أو خُلقه، أو ماله، أو ولده، أو والده، أو زوجه، أو خادمه، أو مملوكه، أو عمامته، أو ثوبه، أو مشيته، وحركته، وبشاشته، وخلاعته، وعبوسه ، وطلاقته، أو غير ذلك مما يتعلق به، سواء ذكرته بلفظك، أو كتابك، أو رمزت، أو أشرت إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك أو نحو ذلك.
أما البدن، فكقولك: أعمى، أعرج، أعمش، أقرع، قصير، طويل أسود، أصفر.
وأما الدين، فكقولك : فاسق ، سارق، خائن، ظالم، متهاون بالصلاة، متساهل في النجاسات ، ليس بارا بوالده، لا يضع الزكاة مواضعها، لا يجتنب الغيبة.
وأما الدنيا: فقليل الأدب، يتهاون بالناس، لا يرى لأحد عليه حقا، كثير الكلام، كثير الأكل أو النوم، ينام في غير وقته، يجلس في غير موضعه.
وأما المتعلق بوالده، فكقوله: أبوه فاسق، أو هندي، أو نبطي، أو زنجي، إسكاف، بزاز، نخاس، نجار، حداد، حائك.
وأما الخلق ، فكقوله: سيئ الخلق، متكبر، مراء، عجول، جبار، عاجز، ضعيف القلب، متهور ، عبوس ، خليع ، ونحوه.
وأما الثوب: فواسع الكم، طويل الذيل، وسخ الثوب ونحو ذلك .
ويقاس الباقي بما ذكرناه؛ وضابطه: ذكره بما يكره" انتهى من "الأذكار" ص 336.
وسئل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ حفظه الله: " ما حكم تقليد الناس في أصواتهم وحركاتهم وغير ذلك؟
فأجاب: "الذي يقلد غيره من باب الهمز واللمز والعيب والتنقص فهو غيبة وحرام.
وإن كان من باب الإعجاب فيه ، ويعلم أن المقلد لا يتأثر ولا ينزعج : فهذا أمر قد يكون جائزا ، لكن تركه أولى ، لأن هذا قد يعودك على شيء شر منه ، فقد تشتغل بأمور أخرى ، وربما تقع في أناس لا يرضون بذلك" انتهى.
ثانيا:
من وقع في الغيبة جاهلا، فنرجو ألا إثم عليه في الغيبة، لا سيما إذا كان فيما يخفى من الأمور، وقد تبين له، فتاب منه ؛ ومن تاب، تاب الله عليه.
والواجب الكف عن الغيبة بالكلية، ومن استطاع التحلل من صاحبها دون مفسدة ، فليتحلل، فإن لم يمكنه ذلك ، أو خاف مفسدته ، وهو الغالب: فإنه يذكره بالخير ، ويثني عليه في المجالس التي كان يغتابه فيها.
قال ابن القيم رحمه الله:
" هل يكفي في التوبة من الغيبة الاستغفار للمغتاب، أم لا بد من إعلامه وتحليله؟
الصحيح أنه لا يحتاج إلى إعلامه ، بل يكفيه الاستغفار ، وذكره بمحاسن ما فيه في المواطن التي اغتابه فيها . وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وغيره.
والذين قالوا لا بد من إعلامه جعلوا الغيبة كالحقوق المالية.
والفرق بينهما ظاهر؛ فإن الحقوق المالية ينتفع المظلوم بعود نظير مظلمته إليه ، فإن شاء أخذها، وإن شاء تصدق بها . وأما في الغيبة فلا يمكن ذلك ، ولا يحصل له بإعلامه إلا عكس مقصود الشارع صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ فإنه يوغر صدره ويؤذيه إذا سمع ما رمى به " انتهى من " الوابل الصيب " (ص 141-142) .
وينظر: جواب السؤال رقم: (218351).
والله أعلم.
تعليق