الحمد لله.
أولًا:
العبرة من الناحية المنهجية هو وجود الأسانيد الصحيحة، فمتى وجدت هذه الأسانيد حكمنا بصحة الخبر.
يقول الحافظ ابن كثير في "البداية والنهاية": "انشقاق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وجعل الله له آية على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من الهدى ودين الحق، حيث كان ذلك وقت إشارته الكريمة.
قال الله تعالى في محكم كتابه العزيز: (اقتربت الساعة وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا ويقولوا سحر مستمر، وكذبوا واتبعوا أهواءهم وكل أمر مستقر).
وقد أجمع المسلمون على وقوع ذلك في زمنه عليه الصلاة والسلام، وجاءت بذلك الاحاديث المتواترة، من طرق متعددة، تفيد القطع عند من أحاط بها ونظر فيها" (3/129).
وقال القاضي عياض في "الشفا": "وأنا أقول صدعا بالحق: إن كثيرا من هذه الآيات المأثورة عنه صلى الله عليه وسلم معلومة بالقطع؛ أما انشقاق القمر: فالقرآن نص بوقوعه، وأخبر عن وجوده، ولا يُعدل عن ظاهر إلا بدليل، وجاء برفع احتماله: صحيح الأخبار من طرق كثيرة. ولا يوهن عزمنا خلاف أخرقَ، مُنحلِّ عرى الدين، ولا يُلتفت إلى سخافة مبتدع يلقى الشك على قلوب ضعفاء المؤمنين؛ بل نٌرغم بهذا أنفه، وننبذ بالعراء سُخفه".(1/255).
وقوله: " وجاء برفع احتماله ": أي جاء برفع احتمال وجود الدليل على صرف هذه الظواهر، وتأويلها. انظر: "شرح ملا علي القاري" (1/543).
وقال: "أخبر تعالى بوقوع انشقاقه بلفظ الماضي، وإعراض الكفرة عن آياته، وأجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه". (1/281).
قال الحافظ ابن حجر، رحمه الله: " قال الخطابي:
انشقاق القمر آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء، وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء، خارجا من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يُطمع في الوصول إليه بحيلة؛ فلذلك صار البرهانُ به أظهر.
وقد أنكر ذلك بعضهم فقال لو وقع ذلك لم يجز أن يخفى أمره على عوام الناس، لأنه أمر صدر عن حس ومشاهدة، فالناس فيه شركاء، والدواعي متوفرة على رؤية كل غريب ونقل ما لم يعهد؛ فلو كان لذلك أصل لخلد في كتب أهل التسيير والتنجيم، إذ لا يجوز إطباقهم على تركه وإغفاله، مع جلالة شأنه ووضوح أمره؟
والجواب عن ذلك: أن هذه القصة خرجت عن بقية الأمور التي ذكروها، لأنه شيء طلبَه خاص من الناس، فوقع ليلا؛ لأن القمر لا سلطان له بالنهار، ومن شأن الليل أن يكون أكثر الناس فيه نياما، ومستكنين بالأبنية، والبارز بالصحراء منهم إذا كان يقظان: يحتمل أنه كان في ذلك الوقت مشغولا بما يلهيه من سمر وغيره، ومن المستبعد أن يقصدوا إلى مراصد مركز القمر، ناظرين إليه لا يغفلون عنه؛ فقد يجوز أنه وقع ولم يشعر به أكثر الناس، وإنما رآه من تصدى لرؤيته ممن اقترح وقوعه. ولعل ذلك إنما كان في قدر اللحظة التي هي مدرك البصر.
ثم أبدى – يعني الخطابي - حكمة بالغة في كون المعجزات المحمدية لم يبلغ شيء منها مبلغ التواتر الذي لا نزاع فيه إلا القرآن، بما حاصله:
أن معجزة كل نبي كانت إذا وقعت عامة، أعقبت هلاك من كذب به من قومه، للاشتراك في إدراكها بالحس؛ والنبي صلى الله عليه و سلم بعث رحمة؛ فكانت معجزته التي تحدى بها عقلية؛ فاختص بها القوم الذين بعث منهم، لما أوتوه من فضل العقول، وزيادة الأفهام. ولو كان إدراكها عاما، لعوجل من كذب به، كما عوجل من قبلهم" انتهى، من"فتح الباري". (7/185).
ثانيًا:
تحوي كتب الصحاح والمسانيد آلاف الروايات في سيرة النبي وأخباره، ولا تحويها سيرة ابن إسحاق، ولم يقل أحد من أهل العلم إنها مردودة لأنها ليست واردة في سيرة ابن إسحاق!! ولا يوجد أساس منهجي يجعل غياب موضوع معين عن سيرة ابن إسحاق، حجة تشكك في هذا الموضوع، فلا يٌعرف هذا من الناحية المنهجية.
ثالثًا:
ولد ابن إسحاق عام (85هـ) وتوفي أنس بن مالك عام (93هـ) فلم تحصل لقيا يعتمد عليها علميا بين ابن إسحاق وأنس بن مالك رضي الله عنهما، فقد كان سن ابن إسحاق ثمان سنوات يوم مات أنس بن مالك، وشيوخ ابن إسحاق الذين يروي عنهم في السيرة هم (114) شيخًا ليس منهم أنس بن مالك، وليس منهم واحد ممن روى حديث انشقاق القمر؛ فالأقرب أن هذا الخبر لم يقع له من شيوخه؛ ولذلك لم يذكره.
رابعًا:
رواية انشقاق القمر موجودة عند الإمام عبد الرزاق، وعند إسحاق بن راهويه، وعند أحمد في "مسنده"، وكل هؤلاء قبل البخاري ومسلم؛ فلم تبدأ الرواية عند البخاري ومسلم، بل هي موجودة قبلهما.
خامسًا:
ابن هشام تبع لابن إسحاق، وليس مستقلًا عنه؛ فإذا ثبت أنه لا دليل على أن ابن إسحاق تحمل عن واحد من رواة حديث انشقاق القمر؛ فابن هشام تابع له في هذا.
فالحاصل:
أن مجرد عدم رواية مصدر من المصادر لخبر من الأخبار لا يقدح في هذا الخبر. وإذا زدنا على ذلك أن رواة هذا الخبر ليسوا من شيوخ صاحب هذا المصدر، تيقنا تمامًا من أنه لا أثر من الناحية المنهجية لكون هذا المصدر، لم يرو هذا الخبر.
والله أعلم.
تعليق