الحمد لله.
أولًا:
هذه القصة رواها الْحُسَيْن بْن وَاقِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " خَطَبَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فَاطِمَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّهَا صَغِيرَةٌ)، فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ" رواه النسائي (3221)، وفي"الكبرى" (5310)، وابن حبان(6948)، والحاكم في "المستدرك" (2 / 167 – 168)، وقال: "صحيح على شرظ الشيخين".
وتُعقّب بأن الحسين بن واقد ليس من رجال البخاري، بل من رجال مسلم فقط.
وحسين بن واقد هذا من أهل الصدق ووثقه ابن معين.
قال ابن أبي حاتم رحمه الله تعالى:
" حدثنا عبد الرحمن أنا علي بن أبي طاهر فيما كتب إلي قال أنا أبو بكر الأثرم قال قلت لأبي عبد الله ما تقول في الحسين بن واقد؟ فقال: لا بأس به. وأثنى عليه خيرا " انتهى من "الجرح والتعديل" (3 / 66).
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقال بن أبي خيثمة، عن ابن معين: ثقة.
وقال أبو زرعة، والنسائي: ليس به بأس.
وقال ابن حبان: كان على قضاء مرو، وكان من خيار الناس، وربما أخطأ في الروايات...
وقال ابن سعد: كان حسن الحديث.
وقال الآجري، عن أبي داود: ليس به بأس.
وقال الساجي: فيه نظر، وهو صدوق يهم " انتهى من "تهذيب التهذيب" (1 / 438).
إلا أن الإمام أحمد قد استنكر بعض حديثه.
قال ابن المبرّد رحمه الله تعالى:
" الحسين بن واقد المروزي: استنكر أحمد بعض حديثه، وفي رواية المروذي أيضا، قال أحمد: ليس بذاك، وقال في رواية الميموني: له أشياء مناكير " انتهى من "بحر الدم" (ص 42).
وقال عبد الله ابن الإمام أحمد:
" قال أبي: عبد الله بن بريدة الذي روى عنه حسين بن واقد: ما أنكرها، وأبو المنيب أيضا، يقولون كأنها من قِبَل هؤلاء" انتهى من"العلل ومعرفة الرجال" (2 / 22).
والإمام أحمد رحمه الله تعالى يحكم بنكارة ما قد يتفرد به الثقة إن لم يوافقه غيره.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ... وإنما قال الإمام أحمد: " ليس بالمنكر؛ لأنه قد وافقه على بعضه غيره "، لأن قاعدته: أن ما انفرد به ثقة، فإنه يتوقف فيه حتى يتابع عليه، فإن توبع عليه زالت نكارته، خصوصا إن كان الثقة ليس بمشتهر في الحفظ والاتقان، وهذه قاعدة يحيى القطان وابن المديني وغيرهما " انتهى من "فتح الباري" (4/174).
وقد ورد ما يشير إلى أنه استنكر من حديث الحسين بن واقد، لما فيه من مخالفة لغيره بزيادات.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وقال الأثرم قال أحمد: في أحاديثه زيادةٌ ما أدري أي شيء هي؟ ونفض يده " انتهى من "تهذيب التهذيب" (1 / 438).
والراوي الذي له منكرات لا يُردُّ جميع حديثه، فهو ليس كحال من هو منكر الحديث، كما سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (294363).
وعلى ذلك؛ فحديث الحسين بن واقد، وأمثاله: لا يطرح كله؛ خاصة مع وجود من وثقه، وقبل مروياته عن ابن بريدة.
قال ابن جنيد رحمه الله تعالى:
" قلت ليحيى بن معين: الأحاديث التي رواها الحسين ابن واقد، عن ابن بريدة، عن أبيه، هي صحاح؟ قال: ليس به بأس ثقة، يعني: الحسين بن واقد " انتهى من "سؤالات ابن الجنيد لأبي زكريا يحيى بن معين" (ص 383 – 384).
ولهذا حكم بصحة حديثه عدد من المشتغلين بعلم الحديث، كالشيخ الألباني في "صحيح سنن النسائي (2 / 412)، والشيخ شعيب الأرنؤوط في تعليقه على "صحيح ابن حبان" (15 / 399)، والشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي في "ذخيرة العقبى" (27 / 58).
ويشهد لعموم رد النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر، وقبوله بعلي رضي الله عنه: الخبر المرسل الذي رواه ابن سعد في "الطبقات" (8 / 16)، بإسناد رواته ثقات، حيث قال: وَأَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بن ثعلبة، عن علباء بن أحمر اليشكري: " أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَطَبَ فَاطِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ انْتَظِرْ بِهَا الْقَضَاءَ. فَذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ لِعُمَرَ. فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: رَدَّكَ يَا أَبَا بَكْرٍ. ثُمَّ إِنَّ أَبَا بَكْرٍ قَالَ لِعُمَرَ: اخْطُبْ فَاطِمَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَطَبَهَا، فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لأَبِي بَكْرٍ: (انْتَظِرْ بِهَا الْقَضَاءَ). فَجَاءَ عُمَرُ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَأَخْبَرَهُ. فَقَالَ لَهُ: رَدَّكَ يَا عُمَرُ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ عَلِيٍّ قَالُوا لِعَلِيٍّ: اخْطُبْ فَاطِمَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَطَبَهَا فَزَوَّجَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ… ".
واعتذاره صلى الله عليه وسلم بصغر ابنته رضي الله عنها، ليس فيه ما يستنكر؛ لأن مراعاة تناسب السن لم يرد فيه أمر ولا نهي، بل هو متروك لما يراه ولي الصغيرة من مدى تحقق مصالح النكاح حال الموافقة، وولي البنت مطالب شرعا أن يجتهد لها في اختيار الأحسن والأصلح.
فزواج النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها رغم صغر سنها فيه مصلحة لها، ولا يتصور فيه تخلف مصالح النكاح، لكمال خَلْقِه وخُلُقِه صلى الله عليه وسلم، ومحبة المخالط له مهما كانت سنه، فلا شك أن زواجه بعائشة رضي الله عنها هو الأصلح لها دينا ودنيا.
وأما فاطمة رضي الله عنها، فهو صلى الله عليه وسلم وليّها، وهو أعلم بحالها، وما الذي يصلح لها، فالظاهر أنه رأى أن الذي تركن إليه هو من يقاربها في السن، ففي النكاحين تمت مراعاة مصلحة الزوجة.
قال السندي رحمه الله تعالى:
" قوله: ( فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ ) أي عقب ذلك بلا مهلة، كما تدل عليه الفاء، فعُلم أنه لاحظ الصغر بالنظر إليهما، وما بقي ذاك بالنظر إلى علي؛ فزوجها منه.
ففيه أن الموافقة في السن أو المقاربة مرعية لكونها أقرب إلى المؤالفة، نعم قد يترك ذاك لما هو أعلى منه، كما في تزويج عائشة رضي الله تعالى عنها. والله تعالى أعلم " انتهى من "حاشية السندي" (6 / 62).
وقال الشيخ محمد بن علي بن آدم الإثيوبي رحمه الله تعالى:
" قد أشار السنديّ رحمه اللّه تعالى في كلامه المذكور إلى جواب استشكال وارد على حديث الباب، وهو أنه صلى اللَّه عليه وسلم تزوّج عائشة، وهي صغيرة، فكيف قال لأبي بكر وعمر رضي اللَّه تعالى عنهما:( إِنَّهَا صَغِيرَةٌ )؟
وحاصل الجواب أن الموافقة في السن، أو المقاربة فيه إنما يُعتبر فيما إذا لم يكن للزوج فضل يجبُرُ ذلك، وإلا فلا بأس بالتفاوت فيه؛ ولذلك تزوّج النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم عائشة رضي اللَّه تعالى عنها، وهي بنت ست سنين، وهو فوق خمسين سنة؛ لما ذكرنا.
فإن قيل: قد كان لأبي بكر وعمر فضل يؤدّي الغرض؛ فلماذا لم يُعتبر؟
قلنا: نعم لا يُنكر فضلهما، وشرفهما رضي اللَّه تعالى عنهما، إلا أنّ لعليّ رضي اللَّه تعالى عنه زيادة فضل عليهما بالنسبة لفاطمة رضي اللَّه تعالى عنها، وهو كونه مقاربا لها في السنّ، وهو الذي يحصل به الغرض من النكاح، وهو دوام الألفة والمحبّة بين الزوجين، كما ذكرنا، فلذا قدمه النبيّ صلى اللَّه عليه وسلم عليهما؛ لذلك. واللَّه تعالى أعلم بالصواب " انتهى من "ذخيرة العقبى" (27 / 58).
فالحاصل؛ أن السن هو أحد عوامل اختيار الزوج المناسب، وهذا العامل إن حدثت فيه فجوة نتاجًا لفرق السن، فقد يجبرها شيء آخر، وهو في حالتنا الفضل العظيم للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو فضل مقرون بطبيعة عقلية ونفسية وجسدية، لا يقاربها أحد من أصحابه عليه الصلاة والسلام، وهذا مشهود في سيرته عليه الصلاة والسلام زوجًا، فلا مقارنة بينه وبين غيره، وفرق سنه عن عائشة رضي الله عنه لا يشبه فرق سن أبي بكر وعمر عن فاطمة، لأن رسول الله لا يشبهه أحد، ولا يقعد به السن كما يقعد بغيره.
وأشار ابن العربي رحمه الله تعالى، إلى جوابين آخرين، حيث قال:
" ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم خطبه أبو بكر وعمر في فاطمة، فقال لهما: ( إِنَّهَا صَغِيرَةٌ. فَخَطَبَهَا عَلِيٌّ، فَزَوَّجَهَا مِنْهُ ).
فيحتمل أنه تأخر الأمر، حتى كبرت.
ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان نواها لعلي، فلم يكن ليبدل نيته، وهذا أظهر " انتهى من "عارضة الأحوذي" (5/22).
ثم إن زواجه صلى الله عليه وسلم بعائشة رضي الله عنها، ورد فيه ما يشير أنه حصل بوحي، كما روى البخاري (3895)، ومسلم (2438) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ لَهَا: ( أُرِيتُكِ فِي المَنَامِ مَرَّتَيْنِ: أَرَى أَنَّكِ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ، وَيَقُولُ: هَذِهِ امْرَأَتُكَ، فَاكْشِفْ عَنْهَا، فَإِذَا هِيَ أَنْتِ، فَأَقُولُ: إِنْ يَكُ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ؛ يُمْضِهِ ).
والله أعلم.
تعليق