السبت 2 ربيع الآخر 1446 - 5 اكتوبر 2024
العربية

لماذا لم تستر الغامدية على نفسها وطلبت تطهيرها بالحد؟

424091

تاريخ النشر : 22-10-2023

المشاهدات : 9080

السؤال

أريد أن أسأل عن المرأة التي ذهبت للرسول صلى الله عليه وسلم، وأخبرته أنها تحمل طفلاً من الزنا، ما قصتها؟ وهل فضحت نفسها، أم علم أهلها مسبقاً بواقعتها؟ وإن كانت اعترفت بذنبها للرسول صلى الله عليه وسلم بدون أن يفضحها الله سبحانه وتعالى، فكيف للرسول أن يحكم عليها بالحد مباشرة دون أن يدعوها للتوبة؟ أريد أن تخبرني بالتفاصيل.

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

هذا نص حديث الغامدية: عن بريدة رضي الله عنه قال: "…ثُمَّ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ مِنْ غَامِدٍ مِنَ الْأَزْدِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، طَهِّرْنِي. فَقَالَ: (وَيْحَكِ، ارْجِعِي فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ، وَتُوبِي إِلَيْهِ).

فَقَالَتْ: أَرَاكَ تُرِيدُ أَنْ تُرَدِّدَنِي كَمَا رَدَّدْتَ مَاعِزَ بْنَ مَالِكٍ.

قَالَ: (وَمَا ذَاكِ؟)

قَالَتْ: إِنَّهَا حُبْلَى مِنَ الزِّنَى، فَقَالَ: (آنْتِ؟) قَالَتْ : نَعَمْ.

فَقَالَ لَهَا: (حَتَّى تَضَعِي مَا فِي بَطْنِكِ)

قَالَ: فَكَفَلَهَا رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَار، حَتَّى وَضَعَتْ، قَالَ: فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: قَدْ وَضَعَتِ الْغَامِدِيَّةُ.

فَقَالَ: (إِذَنْ لَا نَرْجُمُهَا وَنَدَعُ وَلَدَهَا صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُرْضِعُهُ)

فَقَامَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: إِلَيَّ رَضَاعُهُ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، قَالَ: فَرَجَمَهَا" أخرجه مسلم(5/118).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

"هذه المرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا، واعترفت عنده بأنها زنت، وأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تتوب إلى الله، وأن تستغفر وأن تستر على نفسها، فقالت: يا رسول الله، أتريد أن تردني كما رددت ماعزًا؟! مصممة رضي الله عنها على أن يطهرها من هذا الزنا، فقال: ما شأنك؟ قالت: إنها حبلى من الزنا، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن تنتظر حتى تضع، ثم تفطم الولد، فلما فطمت الولد، أمر بها فرجمت، فكان من جملة من رجمها خالد بن الوليد رضي الله عنه، فحصل عليه دم من رأسها حين ضربه فسبها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له".

ولما توفيت رضي الله عنها صلى عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: يا نبي الله، تصلي عليها وقد زنت، فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لو سعتهم" هذا بعد أن ماتت رضي الله عنها" انتهى، من "شرح بلوغ المرام" (2/532).

ثانيًا: يظهر من سياق الحديث عدة أمور تجيب عن أسئلتك، ونوجزها فيما يلي:

1- أتت هذه المرأة للنبي صلى الله عليه وسلم من نفسها، ولم يكشفها أهلها.

2- لم يدعها النبي صلى الله عليه وسلم للتوبة؛ لأنها أتت تائبة معترفة بذنبها، نادمة عليه، طالبة للتطهير بالحد، فإتيانها نادمة هو في حد ذاته توبتها.

ولذلك قال رسول الله: (لقد تابت توبة لو قسمت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله).

وفي الرواية الأخرى: (وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ له)، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَصَلَّى عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ".

3- أقام النبي صلى الله عليه وسلم الحد على الغامدية لإصرارها عليه؛ لأنها رأت أن التطهير بالحد أكمل لها، وأرجى لقبول التوبة.

ومن فوائد إقامة الحد، كما يقول ابن الملقن في: "التوضيح لشرح الجامع الصحيح"(31/584): "موضع الحدود أنها للردع والزجر وحقن الدماء وحفظ الحرمة وصيانة الأموال".
4- لا شك أن ستر المؤمن لنفسه مندوب إليه؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللَّهِ مَنْ أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ اللَّهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ اللَّهِ) رواه مالك في "الموطأ" (2386).

لكن قد يظهر في بعض الصور ما يرجح جانب الاعتراف بالحد، وطلب التائب أن يقام عليه الحد.
وقد ذكر بعض العلماء أن الغامدية لم تستر نفسها؛ لظهور الحبل فرأت أن التطهير بالحد أكمل لها ما دام أنها لن تستطيع الستر.

قال الحافظ العراقي في "شرح الترمذيّ"، كما في "ذخيرة العقبي" (19/232): "بأن الغامديّة كان ظهر بها الحَبَلُ، مع كونها غير ذات زوج، فتعذّر الاستتار، للاطلاع على ما يُشعر بالفاحشة، ومن ثَمّ قيّد بعضهم ترجيح الاستتار حيث لا يكون هناك ما يشعر بضدّه، وإن وُجد فالرفع إلى الإمام ليقيم عليه الحدّ أفضل" انتهى.

بل قرر الحافظ ابن حجر، رحمه الله: أن الستر، وإن كان مندوبا إليه؛ فإن الاعتراف عند الإمام بالحد، وطلب إقامة الحد، مبالغة في التطهير من الذنب: أفضل. وهو الذي يظهر من مدح النبي صلى الله عليه وسلم للغامدية على ذلك، وأنه ليس وراء ما أتت به في التوبة شيء:

( لَقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَوَسِعَتْهُمْ.

وَهَلْ وَجَدْتَ تَوْبَةً أَفْضَلَ مِنْ أَنْ جَادَتْ بِنَفْسِهَا لِلَّهِ تَعَالَى؟!).

قال ابن حجر، رحمه الله، في شرح حديث ماعز بن مالك، وبيان فوائده:

" وفي هذا الحديث من الفوائد: منقبة عظيمة لماعز بن مالك، لأنه استمر على طلب إقامة الحد عليه مع توبته، ليتم تطهيره، ولم يرجع عن إقراره، مع أن الطبع البشري يقتضي أنه لا يستمر على الإقرار بما يقتضي إزهاق نفسه، فجاهد نفسه على ذلك، وقوي عليها، وأقر من غير اضطرار إلى إقامة ذلك عليه بالشهادة، مع وضوح الطريق إلى سلامته من القتل بالتوبة...

ويؤخذ من قضيته: أنه يستحب لمن وقع في مثل قضيته أن يتوب إلى الله تعالى، ويستر نفسه، ولا يذكر ذلك لأحد، كما أشار به أبو بكر وعمر على ماعز. وأن من اطلع على ذلك يستر عليه بما ذكرنا، ولا يفضحه، ولا يرفعه إلى الإمام، كما قال صلى الله عليه وسلم في هذه القصة: (لو سترته بثوبك لكان خيرا لك) ...

وقد استشكل استحباب الستر مع ما وقع من الثناء على ماعز والغامدية؟

وذكر جواب شيخه الحافظ العراقي، على ما سبق نقله، ثم قال:

" والذي يظهر: أن الستر مستحب، والرفع لقصد المبالغة في التطهير أحب. والعلم عند الله تعالى". انتهى، من "فتح الباري" (12/124-125).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب