الحمد لله.
أولًا:
بخصوص (الجن) فإن الله عز وجل ساقهم مع الإنس في الخطاب في أول الحديث، ثم حصل الاكتفاء بذكر الإنس في آخر الحديث، اكتفاء بدلالة السياق على إجابة الله سائر من دعاه من الإنس والجن لا ينقص ذلك في ملكه شيء.
فالاكتفاء هنا من باب (تغليب) الإنس على الجن، وغرضه الاختصار، وهذا الأسلوب هو أسلوب التغليب، والتغليب هو ترجيح أحد المعلومين على الآخر وإطلاقه عليهما.
ويكون التغليب في أمور كثيرة، منها: تغليبُ المذكّر على المؤنّث، وتغليب الكثير على القليل، وتغليب المعنى على اللفظ، وتغليب المخاطب على الغائب، وتغليب أحد المتناسبين أو المتشابَهيْن أو المتجاوريْنِ على الآخر، وتغليب العقلاء على غيرهم، إلى غير ذلك من أمور.
ومن أمثلته: إطلاق لفظ الْعَالَمِينَ في القرآن في سورة (الفاتحة) وفي بعض النصوص الأخرى على كلّ ما سوى الله، تغليباً للعقلاء على غيرهم.
وقول الله عزّ وجلّ يَابَنِي ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ الأعراف/27.
ومن أمثلته ذكر الله عزّ وجلّ في القرآن الذين آمنوا، والّذين كفروا، في نصوص كثيرة، ويدخل المؤمنات في الذين آمنوا، والكافرات في الّذين كفروا، لأنّ الاقتصار في اللفظ على المذكورين، قد كان على سبيل التغليب.
وينظر حول أسلوب "التغليب" في القرآن الكريم:
"البرهان في علوم القرآن" للزركشي (3/302) وما بعدها ، "الإتقان في علوم القرآن" للسيوطي (4/1524) وما بعدها .
ثانيًا:
خطاب المذكر الشامل للإناث هو أيضًا من أسلوب التغليب كما تقدم، فليس معنى استعمال أساليب التذكير أن النساء غير مشمولات بالخطاب، إلا إن تم النص صراحة على أنهن غير مشمولات بالخطاب، أما في حالة عدم النص، فالسياق الذي يقرؤه العاقل سيفهم منه عدم الفرق بين الرجال والنساء، وأن تخصيص الخطاب هو لجريان الاستعمال؛ لا لإرادة التخصيص.
وقد أكدت الشريعة هذا في قول رسول الله عليه الصلاة والسلام: ( إنما النساء شقائق الرجال ) أخرجه أبو داود (236).
قال الخطابي: "وقوله النساء شقائق الرجال: أي نظائرهم وأمثالهم في الخلق والطباع؛ فكأنهن شققن من الرجال.
وفيه من الفقه: إثبات القياس وإلحاق حكم النظير بالنظير، وأن الخطاب إذا ورد بلفظ الذكور، كان خطابا للنساء؛ إلا مواضع الخصوص التي قامت أدلة التخصيص فيها" انتهى، من "معالم السنن" (1/79).
ويقول شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (6/437): "وقد عهدنا من الشارع في خطابه أنه يعم القسمين، ويدخل النساء بطريق التغليب.
وحاصله: أن هذه الجموع تستعملها العرب تارة في الذكور المجردين، وتارة في الذكور والإناث ، وقد عهدنا من الشارع أن خطابه المطلق يجري على النمط الثاني.
وقولنا : المطلق؛ احتراز من المقيد مثل قوله: والمؤمِنُونَ والمؤمِنَاتُ التوبة/96" انتهى.
وقال ابن فارس في"الصاحبي" (ص/47):
"إذا جاء الخطاب بلفظ مذكّر، ولم يُنَصَّ فيه على ذِكر الرجال؛ فإنّ ذلك الخطاب شامل للذُكران والإناث؛ كقوله جلّ ثناؤه: وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَ وَٱرۡكَعُواْ مَعَ ٱلرَّٰكِعِينَ البقرة/43 كذا تَعْرف العرب هذا". انتهى.
وينظر للفائدة: "البحر المحيط" للزركشي (4/240) وما بعدها.
تنبيه:
بخصوص خطاب المذكر الذي لا يُشار فيه للنساء رغم كونهن مقصودات بالخطاب= فهذا في الحقيقة مشترك بين اللغات، ولذلك تجد الكتب في اللغات كلها تستعمل ضمائر التذكير، وتخاطب الرجال بكلام يُراد به مخاطبة الرجال والنساء، وتحت ضغط من الحركات النسوية صار بعض المؤلفين ينبه في البداية على أن استعماله أساليب مخاطبة المذكر، هو للتيسير وعدم التكرار، وصارت قلة أخرى تستعمل الضمائر بالتبادل على سبيل التنويع فيقولون مثلا: (يجب عليه/عليها)؛ وهذه طريقة كتابة مرهقة كما ترى، والركون إلى التغليب كأسلوب عربي بل ومن سمات اللغات عمومًا، هو الأليق بفصاحة الكلام واختصاره.
والله أعلم
تعليق