الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

المجاهر بالمعصية، هل يحرم المغفرة والشفاعة؟

426365

تاريخ النشر : 16-04-2023

المشاهدات : 8618

السؤال

شخص قال: إن المجاهرين محرومون من الشفاعة، واستدل بحديث الرسول عليه الصلاة والسلام: ( كل أمتي معافى إلا المجاهرين)، فهل معنى الحديث أن الله تعالى لن يعفو عنهم؟ وهل هم محرومون من الشفاعة؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (كُلُّ أُمَّتِي مُعَافًى إِلَّا المُجَاهِرِينَ، وَإِنَّ مِنَ المُجَاهَرَةِ أَنْ يَعْمَلَ الرَّجُلُ بِاللَّيْلِ عَمَلًا، ثُمَّ يُصْبِحَ وَقَدْ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَيَقُولَ: يَا فُلاَنُ، عَمِلْتُ البَارِحَةَ كَذَا وَكَذَا، وَقَدْ بَاتَ يَسْتُرُهُ رَبُّهُ، وَيُصْبِحُ يَكْشِفُ سِتْرَ اللَّهِ عَنْهُ) رواه البخاري (6069)، ومسلم (2990).

وقد دل على أن المجاهرين بالمعاصي ليسوا من أهل المعافاة.

وهذه المعافاة تنوعت أقوال أهل العلم في بيانها:

1-فمنهم من حملها على المعافاة في العِرض، وهو أن المستتر بذنبه مستور العرض، والمجاهر مفضوح بذكره بمعصيته، وربما يُلعن ويُدعى عليه.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

" المجاهرون: الّذين يجاهرون بالفواحش ويتحدّثون بما قد فعلوه منها سرا، والنّاس في عافية من جهة أنهم مستورون، وهؤلاء مُفتَضَحون." انتهى من "شرح المشكل" (3/397).

2-ومنهم من جعلها بمعنى المغفرة والعفو من الله تعالى، فالمجاهر بمعاصيه متوعَّد بحرمان المغفرة والعفو.

قال الملا علي القاري رحمه الله تعالى:

"المعنى: كل أمتي لا يؤاخذون، أو لا يعاقبون عقابا شديدا؛ إلا المجاهرون" انتهى من "المرقاة" (8 / 575).

3-ومن أهل العلم من حملها على المعافاة من هذا الذنب الذي يجاهر به، فلا يوفق للتوبة منه، بل يبقى مستحسنا له، زائغ القلب عن فحشه وعاره، حتى يلقى الله به؛ وقد قال الله تعالى: ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) الصف/5

قال ابن القيم، رحمه الله، في بيان آثار المعاصي:

"ومنها: أنه ينسلخ من القلب استقباحها، فتصير له عادة، فلا يستقبح من نفسه رؤية الناس له، ولا كلامهم فيه. وهذا عند أرباب الفسوق هو غاية التهتك وتمام اللذة، حتى يفتخر أحدهم بالمعصية، ويحدث بها من لم يعلم أنه عملها، فيقول: يا فلان، عملت كذا وكذا.

وهذا الضرب من الناس لا يعافون، وتسد عليهم طريق التوبة، وتغلق عنهم أبوابها في الغالب، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم .. " ثم ذكر الحديث. "الجواب الكافي" (57).

والظاهر أنه يحمل على إطلاقه، وهو أن المجاهر معرض نفسه لعقوبة الدنيا والآخرة.

ثانيا:

الذنب الذي ليس بكفر، قد يتجاوز الله عن صاحبه ويعفو عنه، فهو تحت مشيئة الله تعالى، كما في قوله سبحانه تعالى:

(إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) النساء/48.

قال ابن بطال رحمه الله تعالى:

" وليحذر المجاهرون بالمعاصي من وعيد الله النافذ على من شاء من عباده " انتهى من "شرح صحيح البخاري" (9/264).

ثم للمسلم مخرج من هذه العقوبة بالتوبة والاستغفار.

قال الله تعالى:

( وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) آل عمران/135 – 136.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، تَابَ اللهُ عَلَيْهِ ) رواه مسلم (2703) .

وعَنْ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ) رواه الترمذي (3537) وقال : هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:

" قد دلت نصوص الكتاب والسنة: على أن عقوبة الذنوب تزول عن العبد بنحو عشرة أسباب:

أحدها: التوبة وهذا متفق عليه بين المسلمين...

السبب الثاني: الاستغفار كما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا أذنب عبد ذنبا فقال: أي رب أذنبت ذنبا فاغفر لي، فقال: علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ... )، وفي صحيح مسلم عنه أنه قال: ( لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم )... " انتهى من "مجموع الفتاوى" (7 / 487 – 488).

وأما كون المجاهر يحرم الشفاعة يوم القيامة، فلا نعلم ما يدل على هذا، ما دام لم يخرج بذلك إلى استحلال الذنب، أو الانسلاخ من الشريعة.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب