الحمد لله.
الصحابة رضوان الله عليهم قد ثبتت عدالتهم، فيجب إحسان الظن بهم وايجاد محامل حسنة لتصرفاتهم، ولا يشترط في هذه المحامل أن يرد بها خبر صحيح، بل يكفي أن تكون معقولة غير متكلفة.
فينبغي التفريق بين الاحتجاج للأحكام الشرعية فيجب فيه إقامة الدليل، وبين إحسان الظن بالصحابة رضوان الله عليهم فيكفي فيها المحامل الحسنة.
وما دامت فاطمة والعباس وعلي رضي الله عنهم قد أقروا بأَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد قَالَ: ( لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ ) ، فهناك عدة احتمالات ذكرها العلماء .
فمنهم من ذهب إلى أنهم توقفوا عن المطالبة بالميراث بعد سماعهم لهذا الحديث.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" فأما طلب فاطمة ميراثها من أبيها من أبي بكر، فكان ذلك قبل أن تسمع الحديث الذي دلَّ على خصوصية النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وكانت متمسكة بما في كتاب الله من ذلك، فلما أخبرها أبو بكر بالحديث توقفت عن ذلك " انتهى من "المفهم" (3 / 563).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" كون النبي صلى الله عليه وسلم لا يورث: ثبت بالسنة المقطوع بها وبإجماع الصحابة...
وذلك أن هذا الخبر رواه غير واحد من الصحابة في أوقات ومجالس، وليس فيهم من ينكره، بل كلهم تلقاه بالقبول والتصديق.
ولهذا لم يصر أحد من أزواجه على طلب الميراث، ولا أصر العم على طلب الميراث، بل من طلب من ذلك شيئا، فأُخبر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: رجع عن طلبه.
واستمر الأمر على ذلك على عهد الخلفاء الراشدين إلى علي، فلم يغير شيئا من ذلك، ولا قسم له تركة " انتهى من "منهاج السنة" (4/220).
ومن العلماء من ذهب إلى أنهم فهموا أن الحديث ليس عامًّا في جميع الأموال ، بل المراد به بعض الأموال دون بعض .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" وكأنها اعتقدت تخصيص العموم في قوله: ( لا نورث )، ورأت أن منافع ما خلفه من أرض وعقار لا يمتنع أن تورث عنه، وتمسك أبو بكر بالعموم ، واختلفا في أمرٍ محتمل للتأويل " انتهى من "فتح الباري" (6/202).
ومن العلماء من حمل استمرار مطالبة العباس وعلي رضي الله عنهما، على أنهما أرادا الإشراف على هذه الأراضي، وتوزيع منافعها السنوية على مستحقيها ، ولم يريدا تقسيمها على أنها ميراث.
يدل لذلك ما في محاورة عُمَر بْن الْخَطَّابِ للعباس وعلي رضي الله عنهم جميعا حين قال: (ثُمَّ جِئْتَنِي أَنْتَ وَهَذَا وَأَنْتُمَا جَمِيعٌ وَأَمْرُكُمَا وَاحِدٌ، فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا، فَقُلْتُ: إِنْ شِئْتُمْ دَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللهِ أَنْ تَعْمَلَا فِيهَا بِالَّذِي كَانَ يَعْمَلُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخَذْتُمَاهَا بِذَلِكَ؛ قَالَ: أَكَذَلِكَ؟ قَالَا: نَعَمْ) رواه البخاري في عدة مواضع من صحيحه منها (3094)، ومسلم (1757) واللفظ له.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
" وأما منازعة علي والعباس، فلم تكن في أصل الميراث، ولا طلبا أن يتملكا ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم من أموال بني النضير، لأربعة أوجه:
أحدها: أنهما قد كانا ترافعا إلى أبي بكر في ذلك، فمنعهما أبو بكر مستدلا بالحديث الذي تقدّم، فلما سمعاه أذعنا، وسكنا، وسلّما، إلى أن توفي أبو بكر، وولي عمر، فجاءاه، فسألاه أن يوليهما على النظر فيها، والعمل بأحكامها، وأخذها من وجوهها، وصرفها في مواضعها، فدفعها إليهما على ذلك، وعلى ألا ينفرد أحدهما عن الآخر بعمل حتى يستشيره، ويكون معه فيه، فعملا كذلك إلى أن شق عليهما العمل فيها مجتمعين، فإنهما كانا بحيث لا يقدر أحدهما أن يستقل بأدنى عمل حتى يحضر الآخر، ويساعده، فلما شق عليهما ذلك، جاءا إلى عمر رضي الله عنه ثانية، وهي هذه الكرة التي ذكرت هنا، يطلبان منه أن يقسمها بينهما، حتى يستقل كل واحد منهما بالنظر فيما يكون في يديه منها، فأبى عليهما عمر ذلك، وخاف إن فعل ذلك أن يظن ظانٌّ أن ذلك قسمة ميراث النبي صلى الله عليه وسلم، فيعتقد بطلان قوله: (لا نورث)، لا سيما لو قسمها نصفين، فإن ذلك كان يكون موافقًا لسُنَّة القسم في المواريث؛ فإن من ترك بنتا، وعما، كان المال بينهما نصفين: للبنت النصف بالفرض، وللعم النصف بالتعصيب. فمنع ذلك عمر حسما للذريعة، وخوفا من ذهاب حكم قوله: (لا نورث).
والوجه الثاني: أن عليًّا لما ولي الخلافة لم يُغَيرها عما عُمل فيها في عهد أبي بكر، وعمر، وعثمان، ولم يتعرض لتملكها، ولا لقسمة شيء منها، بل كان يصرفها في الوجوه التي كان من قبله يصرفها فيها...
والوجه الثالث: اعتراف علي والعبَّاس بصحة قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا نورث، ما تركنا صدقة)، وبعلم ذلك حين سألهما عن علم ذلك، ثم إنهما أذعنا، وسلَّما، ولم يبديا - ولا أحد منهما - في ذلك اعتراضًا، ولا مدفعًا...
والوجه الرابع: نصّ قول عمر لهما، وحكايته عنهما في آخر الحديث، حيث قال لهما: (ثم جئتني أنت وهذا، وأنتما جميع، وأمركما واحد، فقلتم: ادفعها إلينا، فقلت: إن شئتم دفعتها إليكما، على أن عليكما عهد الله أن تعملا فيها بالذي كان يعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخذتماها بذلك، قال: أكذلك؟ قالا: نعم). وهذه نصوص منهم على صحة ما ذكره " انتهى من "المفهم" (3 / 563 – 565).
والله أعلم.
تعليق