الحمد لله.
أولاً:
الأصل وجوب الوفاء بالنذر، إذا نذر الإنسان نذر طاعة، لقوله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَهُ فَلَا يعصه) البخاري (6318)، وقد أثنى الله عز وجل على الذين يوفون بنذورهم بقوله:وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ البقرة/270، وبقوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا الإنسان/ 7.
قال ابن حجر رحمه الله: "وقول الله تعالى (يوفون بالنذر) يؤخذ منه أن الوفاء به قربة؛ للثناء على فاعله، لكن ذلك مخصوص بنذر الطاعة" انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (11/ 576).
وقال ابن عبد البر رحمه الله: "من نذر شيئا لله فيه طاعة، فواجب عليه الإتيان به؛ كالصلاة، والصيام، والصدقة، والعتق، وما أشبه ذلك من طاعة الله، وهذا ما لا خلاف بين علماء المسلمين فيه" انتهى من "التمهيد" (4/89)
إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم حذر من الدخول في النذر لئلا يقع المسلم في حرج ويشق عليه الوفاء، وذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: (لَا تَنْذِرُوا، فَإِنَّ النَّذْرَ لَا يُغْنِي مِنَ الْقَدَرِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا يُسْتَخْرَجُ من البخيل) رواه البخاري (6314)، ومسلم (1640) واللفظ لمسلم.
ثانياً:
من نذر أن يصوم سنة متتابعة ، فحكمه حكم من نذر صيام سنة معينة ، وقد اختلف العلماء في ذلك على قولين :
القول الأول: ذهب الجمهور إلى وجوب الوفاء بهذا النذر، على ألا يُحسب منه رمضان ولا العيدين وأيام التشريق، وأيام حيض المرأة، ولا يلزمها قضاء تلك الأيام.
قال النووي رحمه الله:" وإن نذر صوم سنة بعينها: لزمه صومها متتابعا، كما يلزمه صوم رمضان متتابعاً.
فإذا جاء رمضان صام عن رمضان، لأنه مستحَق بالشرع، ولا يجوز أن يصوم فيه عن النذر، ولا يلزمه قضاؤه عن النذر، لأنه لم يدخل في النذر.
ويفطر في العيدين وأيام التشريق، لأنه مستحق للفطر ولا يلزمه قضاؤه؛ لأنه لم يتناولها النذر، ...
ولو أفطرت المرأة فيها بحيض أو نفاس، ففي وجوب القضاء قولان:
أصحهما لا يجب؛ كالعيد. وبه قال الجمهور.. لأنه لا يصح أن تنذر صوم أيام الحيض" انتهى من "المجموع شرح المهذب" (8/480،478).
وقال ابن قدامة رحمه الله: "إذا نذر صوم سنة بعينها، لم يدخل في نذره رمضان؛ لأنه لا يقبل غير صوم رمضان، فأشبه الليل، ولا يوما العيدين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيامهما، ولا يصح صومهما عن النذر، فأشبها رمضان" انتهى من "المغني" (13/649).
فإن حصل عذر شرعي من أعذار الفطر في الصيام الواجب كالمرض والسفر، أفطر، وقضى تلك الأيام ولا ينقطع تتابعه.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:" القاعدة: أن ما يجب عليه التتابع من الصيام، إذا قطعه لعذر شرعي، فإنه لا ينقطع التتابع، فإذا زال العذر أكمل الصيام، ولا يلزمه أن يستأنف من جديد" انتهى من " لقاءات الباب المفتوح " (93/ 22 بترقيم الشاملة):
وعلى القول بوجوب الوفاء بهذا النذر- صيام سنة متتابعة-: فإن عجز، أو شق عليه الوفاء به مشقة شديدة: كفّر عن نذره كفارة يمين، لما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (من نذر نذراً لا يطيقه، فكفارته كفارة اليمين).
رواه ابن أبي شيبة (12563)، موقوفاً، وروي مرفوعاً عند أبي داود بسند فيه ضعف. انظر: "إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل" (8/ 209).
قال ابن قدامة رحمه الله "من نذر طاعة لا يطيقها، أو كان قادرا عليها، فعجز عنها، فعليه كفارة يمين" انتهى من "المغني" (13/ 632).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية "فإذا قصد الإنسان أن ينذر لله طاعة، فعليه الوفاء به، لكن إذا لم يوف بالنذر لله، فعليه كفارة يمين عند أكثر السلف" انتهى من "مجموع الفتاوى"(33/49).
ويستأنس لهذا بقصة الرجل الذي جامع امرأته في نهار رمضان، حيث أسقط عنه النبي صلى الله عليه وسلم الكفارة الواجبة عليه بأصل الشرع، لوجود المشقة التي اعتذر بها؛ فما وجب بالنذر أولى بأن يسقط، للعذر؛ وإن كان يكفر كفارة يمين عن "التزامه" بذلك؛ والالتزام جار مجرى اليمين.
(فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: هَلَكْتُ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ. قَالَ: وَقَعْتُ بِأَهْلِي فِي رَمَضَانَ، قَالَ: تَجِدُ رَقَبَةً. قَالَ: لَا، قَالَ: فَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصُومَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. قَالَ: لَا، قَالَ: فَتَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. قَالَ: لَا، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِعَرَقٍ، وَالْعَرَقُ الْمِكْتَلُ فِيهِ تَمْرٌ، فَقَالَ: اذْهَبْ بِهَذَا فَتَصَدَّقْ بِهِ) البخاري (2460).
القول الثاني: ذهب بعض أهل العلم إلى أن هذا النذر من باب صيام الدهر المنهي عنه، وأنه لا يلزم الوفاء به، وأن كفارته كفارة اليمين، ونسبته اللجنة الدائمة لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
جاء في جواب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن سؤال عمن نذر صيام سنة متتابعة ما نصه:
"السؤال: نذرت أن تصوم سنة إن ولدت سليمة، وسلم الحمل لمدة سنة، وأنها بالفعل ولدت وسلم الحمل لأكثر من سنة، وتذكر أنها عاجزة عن الصوم.
الجواب: .....، وحيث إن المستفتية ذكرت أنها نذرت أن تصوم سنة، وصيام سنة متواصلة من قبيل صيام الدهر، وصيام الدهر مكروه، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من صام الدهر فلا صام ولا أفطر).
ولا شك أن العبادة المكروهة منهي عنها، فلا وفاء بالنذر بها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "لو نذر عبادة مكروهة مثل قيام الليل كله، وصيام النهار كله لم يجب الوفاء بهذا النذر"، وعليه؛ فيلزم السائلة كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين لكل مسكين نصف صاع من تمر أو غيره من غالب قوت البلد، أو كسوتهم، أو تحرير رقبة مؤمنة، فإن لم تستطع فصيام ثلاثة أيام متتابعة" .
«وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة " (23/ 220) الفتوى رقم (1213).
والحاصل:
من نذر صيام سنة متتابعة، وكان قادراً على الصيام بغير مشقة شديدة لزمه الوفاء على قول الجمهور، ولا يحسب منها رمضان والعيدين وأيام التشريق، وأيام حيض المرأة ونفاسها، ولا ينقطع تتابعه بالفطر بالأعذار المبيحة للفطر في الصيام الواجب الشرعية كالسفر والمرض.
فإن شق عليه مشقة شديدة، كفّر عن نذره كفارة يمين.
وإن أخذ بقول طائفة من أهل العلم: أنه لا يلزمه الوفاء بنذره، وأن عليه كفارة يمين، فنرجو ألا يكون عليه حرج في ذلك.
وينظر جواب السؤال (398950)
والله أعلم
تعليق