الحمد لله.
أولًا:
لا شك أن أخلاقه عليه الصلاة والسلام هي أكمل أخلاق الخلق جميعهم، وهذا من محكمات الدين، وبالتالي فكل شيء يوهم التعارض مع هذا، فلا شك أن له وجهًا في الفهم لا يتعارض مع هذا المحكم، والطريق إلى معرفة وجه الفهم هذا هو السؤال، كما تفضلت وفعلت، جزاك الله خيرًا.
ثانيًا:
تشبيه الإنسان بالحيوان ليس ممنوعًا بهذا الشكل العام، و"المبدئي" الذي توهمه السائل، وجزمت به عبارته.
ولذلك فما جاء في السؤال: " تشبيه الإنسان بالحيوان لا يجوز " بهذا الإطلاق: هو دعوى مجردة، لا يسندها دليل من الشرع، ولا من العقل، ولا من واقع الناس وأعرافهم.
فما زال الناس يعتادون في خطابهم، دون نكير: أن يشبوا الشجاع بالأسد، والماكر بالثعلب، والصبور بالجمل، والبليد بالحمار، والخائن بالذئب، والجاهل بالحمار، ونحو ذلك؛ يكثر ذلك في كلامهم، في مقامات المدح والذم، لا ينكرون ذلك، ولا يستنكرونه من أصله، إنما يكون الكلام في صدق التشبيه، أو كذبه.
بل أعلى من ذلك، ما جاء به القرآن الكريم، في آيات كثيرة، ضرب فيها المثل للكافرين المعرضين عن كتابه، التاركين للانتفاع بما فيه من الآيات والمواعظ .. بالحمار:
( مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) الجمعة/5.
وشبه الله من لم ينتفع بمواعظ كتابه، ولم يختلف حاله بعد سماع الموعظة، عن حاله قبل سماعها، بالكلب:
( وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) الأعراف/175-176.
وجعل الله تعالى ذلك مثلا عاما للكافرين؛ أنهم كالبهائم التي لا تعقل ولا تفهم؛ بل البهائم خير منهم، وأعذر عند الله، وعند الذين يعقلون:
( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف/179
ثانيا:
بل لدينا حالتان يكثر فيهما هذا التشبيه، وأمثاله، ولا يكون فيهما إشكال، لا مبدئي، أخلاقي، ولا علمي، أدبي.
الحالة الأولى: التشبيه بالحيوان على سبيل ذم الفعل والسلوك، فكأنه عليه الصلاة والسلام يقول: لا تفعلوا هذا السلوك لأنه سلوك حيوان، وأنتم بشر مُكَرَّمون، أعزكم الله بالإسلام؛ فلا ينبغي أن تشابهوا الحيوان، ونذكر لهذا مثالين من السنة النبوية:
الأول: عن أَبَي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال: (أَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلَاثٍ، وَنَهَانِي عَنْ ثَلَاثٍ: أَمَرَنِي بِرَكْعَتَيِ الضُّحَى كُلَّ يَوْمٍ، وَالْوِتْرِ قَبْلَ النَّوْمِ، وَصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَنَهَانِي عَنْ: نَقْرَةٍ كَنَقْرَةِ الدِّيكِ، وَإِقْعَاءٍ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ، وَالْتِفَاتٍ كَالْتِفَاتِ الثَّعْلَبِ) أخرجه أحمد (8106).
الثاني: عن ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ؛ الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ، كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ) أخرجه البخاري (2622).
والغرض من التشبيه في مثل ذلك: شدة التنفير من هذه الأفعال المنهي عنها، أو المذمومة في شرع الله.
وعلى ذلك النظام، جرت أمثال الكفار في كتاب الله - وقد سبق إيراد طائفة منها تنفيرا للناس من أعمال السوء، وسنن السوء التي سلكوها.
الحالة الثانية: التشبيه الذي مقصوده وجهُ شبه معين، وليس مقصودُه المماثلة بين المشبه والمشبه به.
وقبل ذكر ما يتعلق بالحيوان من هذا نذكر مثالين للتفهيم:
المثال الأول: قول النبي عليه الصلاة والسلام: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ هَذَا الْقَمَرَ، لَا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ، فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لَا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَافْعَلُوا) أخرجه البخاري (554).
فالمقصود هنا هو تشبيه الرؤية بالرؤية، في وضوحها وجلائها، وليس المقصود هو تشبيه الله سبحانه بالقمر.
المثال الثاني: حديث: (أَوَّلُ زُمْرَةٍ تَلِجُ الْجَنَّةَ صُورَتُهُمْ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، لَا يَبْصُقُونَ فِيهَا وَلَا يَمْتَخِطُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، آنِيَتُهُمْ فِيهَا الذَّهَبُ، أَمْشَاطُهُمْ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمَجَامِرُهُمُ الْأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ، يُرَى مُخُّ سُوقِهِمَا مِنْ وَرَاءِ اللَّحْمِ مِنَ الْحُسْنِ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ قَلْبٌ وَاحِدٌ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا) أخرجه البخاري (3245) ومسلم (2834).
فالمقصود هنا هو تشبيه جمالهم عند دخول الجنة بجمال القمر، وليس مماثلتهم بالقمر.
ثالثا:
وأما عن التشبيه في الحديث المذكور في السؤال: ( مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلَّا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟).
ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا الْآيَةَ. أخرجه البخاري (1352)، ومسلم (2658).
فلا مدخل لهذا التشبيه المذكور في الحديث في باب المدح ولا الذم، ولا تعلق لقول ذلك بخلق كريم، أو دون ذلك، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل سفساف في الخلق، أو اللفظ والكلام؛ بل النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الناس خلقا، وخلقا، وأحلاهم قولا ومنطقا.
وإنما أراد النبي صلى الله عليه وسلم تقريب ذلك المعنى الذهني لأفهام السامعين، فضرب مثلا من البيئة التي يعشونها، ويدركونها جيدا. فشبه رسول الله المولود على الفطرة بالبهيمة الجمعاء (يعني تامة الخلق سليمة الأعضاء)، من حيث إنه يولد ولا نقص فيه، كما تولد البهيمة مكتملة الأعضاء، حتى يأتي الناس فيجدعون، أي يقطعون أذنها، فكما يأتي الناس إلى بهيمة مكتملة، فيقطعون أذنها، يأتون إلى مولود ولد على الفطرة فيربونه على دين فاسد.
قال الخطابي: "والجمعاء: هي السليمة التي لا عيب فيها ولا نقص، سميت بذلك لاجتماع السلامة لها في أعضائها، لا جَدْع بها ولا خرم، حتى يحدثهما فيها أربابها.
ضرب البهيمة السليمة الخلقة أولَ ما تُنْتَجُ، مثلا للمولود في سلامة فطرته من الشرك والإلحاد أول ما يولد، حتى يكون ما يكون من ذلك بعد" انتهى، من "أعلام الحديث" (1/714).
فالمقصود هنا هو وجه الشبه الذي هو: إدخال النقص على الشيء التام، وليس المقصود هو مماثلة الإنسان للحيوان، كما أنه لم يكن المقصود مماثلة الله بالقمر.
والبلاغيون يقولون: "التشبيه هو الدلالة على مشاركة أمر لأمر في معنى"
فهذه المشاركة في معنى لا حرج فيها، ما دام هذا المعنى موجودا ولا يكون مقصودها المماثلة التامة بين المشبه والمشبه به؛ بل مقصودها فقط هو التنبيه على هذا الاشتراك في ذلك المعنى، الذي يسميه البلاغيون: "وجه الشبه".
وهذا المعنى قد يكون معنى مذمومًا، وقد يكون معنى ذكر للتوضيح والتبيين، ولم يقصد به لا مدح ولا ذم.
والحديث موضع سؤالك لم يُقصد به ذم المولود الذي يولد على الفطرة بتشبيهه بالبهيمة، بل المقصود وجه شبه معين، وهو تشبيه إدخال النقص على الشيء الكامل الذي حصل في المولود، بتلويث فطرته بالدين الباطل.
والله أعلم.
تعليق