الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

ما هي ضوابط الأخذ بالتفسير العلمي للقرآن؟

437111

تاريخ النشر : 10-03-2024

المشاهدات : 1887

السؤال

بعض الناس يستدلون بالآيتين الكريمتين: (وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَابًا مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15)) الحجر، ويرون أنها توافق ما يحدث لرواد الفضاء من مشاكل في الإبصار والعقل، تجعلهم يشعرون بأنهم مسحورين، وأنهم من شدة الظلام في الفضاء يبدون كأنهم مسكرة أبصارهم، لست متأكدا من حدوث هذه الأعراض فعلا لرواد الفضاء، لكن إن كانت تحدث فهل يصح الاستدلال بهذه الآية على الإعجاز العلمي في القرآن؟، رغم أن المفسرين على اختلافهم هل الذي يعرج الملائكة أم البشر، إلا أنهم متفقون على أن هذا الكلام يخرج من الكفار تكذيبا لرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم وعنادا له، حتى وإن رأوا المعجزات أمامهم، وليست أنها أعراضا تحدث لهم فعلا.

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

من أظهر خصائص القرآن التي تميَّز بها على الكتب السابقة، وصار حجَّةً باقيةً على الناس إلى قيام الساعة، وأوضح مزاياه الدالَّة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم؛ ما عُرِف بإعجاز القرآن.

والإعجاز مصدر الفعل (أعجز)، وهو بمعنى زوال القُدرة عن الإِتيان بالشيء. انظر: "بصائر ذوي التمييز "(1/65).

 والمراد بـ (إعجاز القرآن): إثبات عَجْز البَشَر عن الإتيان بمثل القرآن أو معارَضَته.

ومنه وُصِف القرآن بأنه مُعجِزة، واشتهر في تعريف المُعجِزة بأنها: "أمْرٌ خارقٌ للعادة، مقرونٌ بالتَّحدِّي، سالمٌ من المعارَضَة" انظر: "الإتقان في علوم القرآن" (5/1837).

 والمقصود بكون القرآن مُعجزة: الدَّلالة على صدْقه، وأنه تنْزيلٌ من عند الله العزيز الحكيم.

ولم يرِد مصطلح المعجِزة في القرآن أو السُّنّة، لكن جاءت مصطلحاتٌ أخرى بمعناه مثل (الآية)، و (البيِّنة) و (البرهان) و (السُّلطان)، من ذلك قوله تعالى: ( وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى ) طه/22، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ البَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَيَّ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ القِيَامَةِ ) رواه البخاري (4981)، ومسلم (239).

والوَجْه المتحَدَّى به، المُعجِز إعجازًا تامًّا في جميع آيات القرآن: هو نَظْم القرآن البديع (لغةً وبلاغةً وأسلوبًا)، وذلك لأمَريْن:

1- أنه هو الوَجْه الذي برَع فيه العرب وتميَّزوا فيه، دون الأوْجُه الأخرى، لذا تحدّاهم الله على أن يأتوا بسورة من مثله.
2- أنه الوَجْه الوحيد الذي ينتظِم في كل سورةْ، بلا استِثْناء، بخلاف الأوجه الأخرى التي تُوجَد في بعض السور والآيات، وتتخَلَّف في البعض الآخر.

وأما ما ذُكِر من وجوه أخرى كإعجازه الغيْبِي، والتشريعي: فهذه كلها تُعدّ من دلائل النبوَّة، وآيات صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وربانيِّة القرآن، لكنها ليست مما تحدَّى الله به العرب.

لكن للجَمْع بين أقوال العلماء في قضيَّة إعجاز القرآن، حيث يذكرون وجوهًا أخرى للإعجاز غير البلاغة، ولأجل إزالة ما قد يبدو من تعارض، وعدم إهمال ما قيل من أسرار القرآن ودلائل صدقه ؛ يمكن أن ننتهي إلى نتيجة ملخصُّها:

أن إعجاز القرآن في عصر النبّوَّة، الذي أعجَز العرب: هو في نظْمِه، وبيانه.

وأنَّ ما أدركه العلماء بعد ذلك من وجوه أخرى: جاءَ معزِّزًا للإعجاز، ومؤكِّدًا صِدْق النُّبوَّة، وأن هذا القرآن تنْزيلٌ من الرحمن الرحيم.

ينظر: "محاضرات في علوم القرآن" د. غانم القدوري (253).

ثانيًا:

كما اعتنى المتقدمون بإعجاز القرآن ووجوهه، فقد كان للمعاصرين عناية كبيرة بهذا الميدان، بل توَسَّع لديهم مفهوم الإعجاز بصورة أكبر، بسبب ما ظهر في العصر الراهن من مكتَشفات حديثة، وعلوم جديدة، مع توَفُّر طُرق البحث الحديثة، التي أظهرت معطيَات جديدة ومفاهيم دقيقة، فتنوَّعت أساليبهم في تناول أوجه الإعجاز.

وكان من أبرز الوجوه التي ظهرت عنايتهم بها حتى كادت أن تطغى على غيرها = ما يُعرف بالإعجاز العِلْمي (التَّجريبي)، وهو يتناول آيات القرآن التي فيها إشارةٌ لبعض القضايا العلميَّة المتعلِّقة ببعض العلوم الكونيَّة والتجريبيَّة - وهنا ملحَظ مهم ينبغي التنَبُّه له! وهو أن نسبة هذا الوجه من الإعجاز إلى العلم، دون غيره من أوجه الإعجاز الأخرى: خطأٌ بيِّن، وهو مبنيٌّ على الأثر الناتج عن تقسيم أهل الغرب للعلوم إلى قسمَين: علميَّة: ويعنُونَ بها دراسة العلوم التجريبية، وأدَبية: ويعنُون بها دراسة الشرعيَّات واللُّغويات واللغات_ خصوصًا علم الفلك والطب وعلم النبات والحيوان، وقد شابَهُ شيء من الخلْط والتَّضْخيم والمبالغة، ممّا يستلزم تجليته بشيء من التفصيل، وذلك من خلال النقاط التالية:

- أن المقصد الأوَّل لنزول القرآن هو معرفة العباد ربَّهم، وكيفيَّة عبادته، أما وجود إشارة في القرآن لبعض مسائل العلوم التجريبية: فقد جاءت تبعًا وليست أصالة.

 - أن كثيرًا ممن خاض في هذا الاتجاه: ليس متخصَّصًا في العلم الشَّرعي، فضلاً عن علم التفسير؛ فترتب على ذلك: عدم إتقانه الرَّبط بين معاني آيات القرآن وبين ما يظهر في البحث التجريبي، مما نتَج عنه محاولات تأويل آيات القرآن، لتتناسب مع النظريات والفرضيِّات المكتَشفة، دون مراعاة مصطلحات اللُّغة والشريعة، ومحاولاتهم تركيب ما ورد في البحوث التجريبِيَّة في القرآن.

مثل من جعل السماوات السبع: هي الكواكب السبع السيَّارة، والكُرسي هو المجرَّة، والعرش هو الكَوْن.

- أن أيّ تفسير جاء بعد تفسير السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم: لا يُقبل إلا بضوابط، وهي:

1- أن تكون القضية المفسَّر بها صحيحة في ذاتها، فإن كانت باطلة، فلا يصحّ أن يُحمَل عليها القرآن.

وتظهر صحَّتها من ثلاثة أَوْجُه:

- صدقها الواقعي؛ والذي يدرك ذلك هو المتخصِّص في العلم التجريبي.

- دلالة اللُّغة عليها؛ فإن لم يُثبَت ذلك المعنى لغةً، فهو تفسير مردود، كمن يفسِّر الذَرَّة الواردة في القرآن، بالذرَّة في علم الكيمياء، لأنه مصطلَح حادث لا يثبت لغةً.

- عدم مناقضتها للشَّرع: كمن فسَّر قوله تعالى: ( وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا ) نوح/14، بأنها أطوار النَّظرية الدارونيَّة في النشوء والارتقاء، وهي نظرية مصادمة الشرع، فهي باطلة مردودة.

2- أن لا تناقض وتُبطِل قول السَّلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم، أما الزيادة عليه دون إبطاله فلا بأْس بذلك، ويصير قولاً مضافًا إلى أقوال السلف مما تحتَمله الآية ويوافق السِّياق.

3- أن تحتَمل ألفاظ الآية القضيَّة المفسَّر بها؛ فقد تكون تلك القضيَّة صحيحة في ذاتها، لا تناقض أقوال السَّلف، لكن لا تحتَمله الآية، ولا دلالتها. نحو من فسَّر قوله تعالى: ( وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ ) الأنعام/125، بما اكتُشف حديثًا أن الإنسان إذا صعَد في طبقات الجو العليا يضيقُ تنَفُّسه بسبب نقْص الأكسجين.

4- أن لا يُقصَر معنى الآية على هذا التفسير المعاصر.

ثم إنه عند التأمُّل في الإعجاز العلمي: تجدُه في الحقيقة فرعًا عن الإعجاز الغيبي، إذ مآلُه ما غاب عن النّاس مدَّةً من الزمن ثم انكَشف للمعاصرين.

ينظر في هذه الضوابط وغيرها: "الإعجاز العلمي إلى أين؟" (ص 21)، "الميسر في علوم القرآن" (121-122).

ثالثًا:

عند تطبيق الشروط والضوابط السابقة، على الآية موضع السؤال: يظهر لنا أن هذا التفسير الذي جُعل وجهًا للإعجاز العلمي؛ هو تفسير غير صحيح؛ وذلك لإجماع السلف أن هذا الكلام يخرج من الكفار مخرج التكذيب بالرسالة، فلم تعرض لهم عوارض جسدية، وإنما ادعوا هذا.

يقول الشوكاني في: "فتح القدير" (3/148): "وفي هذا بيان لعنادهم العظيم، الذي لا يقلعهم عنه شيء من الأشياء، كائناً ما كان؛ فإنهم إذا رأوا آية توجب عليم الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله، نسبوا إلى أبصارهم أن إدراكها غير حقيقي لعارض السكر، أو أن عقولهم قد سحرت، فصار إدراكهم غير صحيح".

فالآية لا تقول إن من يصعد للسماء تعرض له عوارض جسدية، بل تقول إن الكفار يدعون هذا، وأنهم مهما أتاهم من آيات القرآن البينات على الهدى، فإنهم يتعامون عنها، ويعرضون عنها إعراضا عظيما، حتى لو فتحت لهم أبواب السماء، فاطلعوا على عالم الغيب بأعينهم، لقالوا: إن أعيننا لم تر ذلك حقيقة؛ إنما توهمت ذلك توهما ، أو أصابهما سحر، فرأت ما لا حقيقة له!!

قال الشيخ السعدي، رحمه الله: " أي: ولو جاءتهم كل آية عظيمة ، لم يؤمنوا وكابروا.

وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ؛ فصاروا يعرجون فيه، ويشاهدونه عيانا بأنفسهم، لقالوا من ظلمهم وعنادهم منكرين لهذه الآية: إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا؛ أي: أصابها سكر وغشاوة، حتى رأينا ما لم نر، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ أي: ليس هذا بحقيقة، بل هذا سحر، وقوم وصلت بهم الحال إلى هذا الإنكار، فإنهم لا مطمع فيهم ولا رجاء" انتهى، من "تفسير السعدي" (430).

ونظير هذه الآية: قول الله عز وجل: ( وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) الأنعام/7.

قال ابن كثير، رحمه الله : " يقول تعالى مخبرا عن كفر المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهتتهم ومنازعتهم فيه: ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم أي: عاينوه، ورأوا نزوله، وباشروا ذلك لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين وهذا كما قال تعالى مخبرا عن مكابرتهم للمحسوسات: ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون * لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون [الحجر: 14، 15] وقال تعالى: وإن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم [الطور: 44]" انتهى من "تفسير ابن كثير" (3/241).

وهذا ظاهر في بطلان هذا الوجه من تفسير الآية الذي يجعلونه مثالًا للإعجاز العلمي القرآني.

وراجع أجوبة الأسئلة رقم: (127249)، (138144)، (271910)، (245475).

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب