الحمد لله.
الاجابة
أولا:
قال الله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ) التوبة/34-35.
قال الشيخ السعدي، رحمه الله:
"هذا تحذير من الله تعالى لعباده المؤمنين عن كثير من الأحبار والرهبان، أي: العلماء والعباد الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، أي: بغير حق، ويصدون عن سبيل الله، فإنهم إذا كانت لهم رواتب من أموال الناس، أو بذل الناس لهم من أموالهم، فإنه لأجل علمهم وعبادتهم، ولأجل هداهم وهدايتهم، وهؤلاء يأخذونها ويصدون الناس عن سبيل الله، فيكون أخذهم لها على هذا الوجه سحتا وظلما، فإن الناس ما بذلوا لهم من أموالهم إلا ليدلوهم إلى الطريق المستقيم.
ومن أخذهم لأموال الناس بغير حق، أن يعطوهم ليفتوهم أو يحكموا لهم بغير ما أنزل الله، فهؤلاء الأحبار والرهبان، ليحذر منهم هاتان الحالتان: أخذهم لأموال الناس بغير حق، وصدهم الناس عن سبيل الله.
وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ أي: يمسكونها وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: طرق الخير الموصلة إلى الله، وهذا هو الكنز المحرم، أن يمسكها عن النفقة الواجبة، كأن يمنع منها الزكاة أو النفقات الواجبة للزوجات، أو الأقارب، أو النفقة في سبيل الله إذا وجبت.
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ، ثم فسره بقوله: يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا أي: على أموالهم، فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فيحمى كل دينار أو درهم على حدته.
فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ في يوم القيامة كلما بردت أعيدت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ويقال لهم توبيخا ولوما: هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ فما ظلمكم ولكنكم ظلمتم أنفسكم وعذبتموها بهذا الكنز.
وذكر الله في هاتين الآيتين، انحراف الإنسان في ماله، وذلك بأحد أمرين:
إما أن ينفقه في الباطل الذي لا يجدي عليه نفعا، بل لا يناله منه إلا الضرر المحض، وذلك كإخراج الأموال في المعاصي والشهوات التي لا تعين على طاعة الله، وإخراجها للصد عن سبيل الله.
وإما أن يمسك ماله عن إخراجه في الواجبات، و "النهي عن الشيء، أمر بضده" انتهى، من "تيسير الكريم الرحمن" (335).
وقال ابن عاشور، رحمه الله: "الحمي شدة الحرارة، يقال: حمي الشيء إذا اشتد حره ...
وبني الفعل للمجهول، لعدم تعلق الغرض بالفاعل، فكأنه قيل: يوم يحمي الحامون عليها ... [و]عدي بعلى، الدالة على الاستعلاء المجازي لإفادة أن الحمي تمكن من الأموال، بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها، ثم أكد معنى التمكن بمعنى الظرفية التي في قوله: في نار جهنم؛ فصارت الأموال محمية عليها النار وموضوعة في النار.
وبإضافة النار إلى جهنم علم أن المحمي هو نار جهنم، التي هي أشد نارٍ في الحرارة، فجاء تركيبا بديعا من البلاغة والمبالغة في إيجاز.
والكي: أن يوضع على الجلد جمر، أو شيء مشتعل.
والجباه: جمع جبهة، وهي أعلى الوجه مما يلي الرأس.
والجنوب: جمع جنب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار.
والظهور: جمع ظهر، وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم.
والمعنى: تعميم جهات الأجساد بالكي فإن تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناف من الآلام.
وسلك في التعبير عن التعميم مسلك الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم، تهويلا لشأنه، فلذلك لم يقل: فتكوى بها أجسادهم." "التحرير والتنوير" (10/179).
وقد ذكر العلماء بعض النكات في تخصيص الجباه والجنوب والظهور بالكي ، ومما ذكروه :
1- أن الكي في "الجبهة" أشنع، وأظهر في الفضيحة والمذلة، والكي في الظهر، موضع الاسترواح والاستلقاء: أشد في وجعه.
2- أن الغني البخيل إذا رأى الفقير: عبس وجهه، وزوى ما بين عينيه، وأعرض بجنبه ، فإذا قرب منه ولي بظهره ، فعوقب بكي هذه الأعضاء ليكون الجزاء من جنس العمل .
3- أن هذه المواضع مجوَّفة ، فيصل الحر إلى أجوافها ، بخلاف اليد والرجل .
قال أبو حيان، رحمه الله: "وخصت هذه المواضع بالكي، قيل: لأنه في الجهة أشنع، وفي الجنب والظهر أوجع.
وقيل: لأنها مجوفة، فيصل إلى أجوافها الحر، بخلاف اليد والرجل.
وقيل: معناه يكوون على الجهات الثلاث مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم.
وقيل: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم، كويت ظهورهم". انتهى، من "البحر المحيط" (5/412).
وقال " ابن الجوزي " :
" فإن قيل: لم خص الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟
فجوابه من وجهين:
أحدهما: أن هذه المواضع مجوفة فيصل الحر إلى أجوافها، بخلاف اليد والرجل، وكان أبو ذر يقول: بشر الكنازين بكي في الجباه، وكي في الجنوب، وكي في الظهور؛ حتى يلتقي الحر في أجوافهم.
والثاني: أن الغني إذا رأى الفقير انقبض ، وإذا ضمه وإياه مجلس ، ازورَّ عنه وولاه ظهره ، فكويت تلك المواضع منه . قاله أبو بكر الوراق "، انتهى.
" التبصرة " لابن الجوزي : (2/ 236) ، " زاد المسير في علم التفسير " (2/ 256). وينظر أيضا: "الكشف والبيان عن تفسير القرآن"، للثعلبي (13/ 337) .
والله أعلم
تعليق