الحمد لله.
أولا:
حديث: ( المؤمنُ يُؤلَفُ، ولا خيرَ فيمَن لا يَألَفُ ولا يُؤلَفُ ).
هو عند الإمام أحمد في "مسنده " (15/106)، وعند البزار في "المسند" (15/349)، وابن عدي في "الكامل" (3/387)، وغيرهم من طرق عدة: عن عَبْد اللهِ بْن وَهْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو صَخْرٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( الْمُؤْمِنُ مَأْلَفٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ).
واستنكره ابن عدي، حيث قال رحمه الله تعالى:
" وأبو صخر هذا، حميد بن زياد، له أحاديث صالحة، روى عنه ابن لهيعة نسخة... وروى عنه حيوة أحاديث، وهو عندي صالح الحديث، وإنّما أنكرت عليه هذين الحديثين - ( المؤمن مؤالف )، وفي القدرية - اللذين ذكرتهما ، وسائر حديثه أرجو أن يكون مستقيما " انتهى من "الكامل" (3/389).
وقال البزار رحمه الله تعالى:
" هكذا قال أبو صخر، عن أبي حازم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، ورواه مصعب بن ثابت، عن أبي حازم عن سهل بن سعد " انتهى. "المسند" (15/350).
ورواية مصعب بن ثابت، رواها الإمام أحمد في "المسند" (37/492)، والطبراني في "المعجم الكبير" (6/131)، وغيرهما: عن عِيسَى بْن يُونُسَ، حَدَّثَنَا مُصْعَبُ بْنُ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُ مَأْلَفَةٌ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ).
لكن مصعب بن ثابت ضعيف.
قال الذهبي رحمه الله تعالى:
" مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، عن عطاء، وعن هشام، وأبي حازم: ضعفه ابن معين، وأحمد، وأبو حاتم " انتهى من "المغني" (2/660).
ورواه ابن عدي في "الكامل" (3/387)، وغيره: عن الزبير بن بكار، عن خالد بن الوضاح، عَن أبي حازم، عَن أَبِي صَالِحٍ، عَن أَبِي هريرة.
وفيه خالد بن وضاح مجهول.
وسُئل الدارقطني رحمه الله تعالى:
" عن حَدِيثِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ).
فقال: اخْتُلِفَ فيه على أبي حازم:
فرواه خالد الوضّاح، وأبو صخر حميد بن زياد، عن أبي حازم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة.
وقال أبو همّام، عن ابن وهب، عن أبي صخر، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، لم يذكروا بينهما أحدا.
وقال مصعب بن ثابت: عن أبي حازم، عن سهيل بن سعد.
والصّحيح عن أبي حازم، عن عون بن عبد اللّه بن عتبة، عن ابن مسعود، من قوله " انتهى من "العلل" (8/ 182 — 183).
وقال رحمه الله تعالى:
" حديث: ( الْمُؤْمِنِ يَأْلَفُ )، له عن أبي حازم أصل.
وإنّما مصعب وهم فيه، فسلك به المحّجة السّهلة عن أبي حازم، عن سهل بن سعد وإنّما رواه أبو حازم، عن عون بن عبد اللّه بن عتبة، عن ابن مسعود من قوله.
ومنهم من رفعه عنه إلى النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم " انتهى. "تعليقات الدارقطني على المجروحين لابن حبان" (ص 265 - 266).
ورواية أبي حازم عن ابن مسعود هذه، رواها ابن أبي شيبة في "المصنف" (19/334)، قال: حدثنا وكيع عن سفيان.
والطبراني في "المعجم الكبير" (9/226)، قال: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ، حدثنا أَبُو نُعَيْمٍ.
كلاهما: عن الْمَسْعُودِيّ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللهِ: ( إِنَّ المُؤْمِنَ مَأْلَفٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ).
وهذا إسناد منقطع، فعون بن عبد الله لم يلق ابن مسعود رضي الله عنه.
قال العلائي رحمه الله تعالى:
" عون بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عم أبيه عبد الله بن مسعود وهو مرسل، قاله الترمذي والدارقطني وذلك واضح ... وقد قيل إن روايته عن جميع الصحابة مرسلة حكاه في التهذيب " انتهى من "جامع التحصيل" (ص 249).
والرواية المرفوعة هي في "فوائد تمام" (1/370) من نفس الطريق، حيث قال: أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ حَبِيبٍ، حدثنا عَبْدُ اللَّطِيفِ - بن نُباتة بن نافع اليحصبي -، حدثنا عَبْدُ الْأَعْلَى - بن عبد الواحد -، حدثنا زَيْنٌ - بن شعيب الإِسكندراني -، عَنْ أُسَامَةَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ عَوْنِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (الْمُؤْمِنُ يُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ).
وهذا إسناد لا يصح، ففيه مجاهيل، مع انقطاعه كما سبق بيانه.
ورواه الطبراني في "المعجم الأوسط" (6/58)، قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: أخبرنا عَلِيُّ بْنُ بَهْرَامَ قَالَ: أخبرنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (الْمُؤْمِنُ يَأْلَفُ وَيُؤْلَفُ، وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ، وَلَا يُؤْلَفُ، وَخَيْرُ النَّاسِ أَنْفَعُهُمْ لِلنَّاسِ).
ثم قال الطبراني:
" لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ إِلَّا عَبْدُ الْمَلَكِ بْنُ أَبِي كَرِيمَةَ، تَفَرَّدَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ بَهْرَامَ ".
وعلي بن بهرام مجهول.
وروى الطبراني في "المعجم الأوسط" (4/356)، قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْأَشْعَثِ قَالَ: أخبرنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَالَ: أخبرنا يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ الْقَلْزُمِيُّ قَالَ: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحَاسِنُهُمْ أَخْلَاقًا، الْمُوَطَّئُونَ أَكْنَافًا، الَّذِينَ يَأْلَفُونَ وَيُؤْلَفُونَ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ).
ثم قال الطبراني:
" لَمْ يَرْوِ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُيَيْنَةَ إِلَّا يَعْقُوبُ بْنُ أَبِي عَبَّادٍ " انتهى.
ومحمد بن عيينة، قال عنه ابن أبي حاتم:
" مُحَمد بن عُيينة بن أبي عِمران أخو سُفيان بن عُيينة، مولى بني هِلال.
رَوَى عَن: أبي حازم سلمة بن دينار، وشُعبة...
سأَلتُ أبي عَنه، فقال: لا يحتج بحَديثه، يأتي بالمَناكير" انتهى من "الجرح والتعديل" (8/42).
ولخّص حاله الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، بقوله:
" محمد بن عيينة الهلالي، أخو سفيان: صدوق له أوهام " انتهى. "تقريب التهذيب" (ص 501).
فالحاصل؛ أن أسانيده لا تخلو من مقال.
ومن أهل العلم من صححه كالشيخ الألباني رحمه الله تعالى في "السلسلة الصحيحة" (1/ 784).
ثانيا:
على القول بصحة الحديث؛ فالمعنى من كون المؤمن يَأْلَفُ ويُؤْلَفُ: أنه قائم بما أمر الله تعالى به، من الإحسان إلى الخلق وكفّ الأذى عنهم، وإحسان الظن بالناس، فلا يتهم أحدا إلا ببيّنة، فمن كان هذا حاله فالناس معه في راحة، فلا يخافون غدره وينتظرون إحسانه.
والذي لا يألفه الناس هو من قصّر في معاملة الخلق بأن ظلمهم أو منعهم خيره، ومن هذا حاله ففي إيمانه ضعف، فالخير فيه ناقص.
قال الصنعاني رحمه الله تعالى:
" (المؤمن يألف) غيره ويأنس به لسلامة صدره وحسن خلقه وصلاح طويته.
(ويؤلف) يألفه الناس لحسن حاله وكونه لهم إلفا، (ولا خير فيمن لا يألف) فإنه لسوء خليقته وقبيح طريقته وخبث طويته إلا أن يتركهم إيثارا لتقواه وانفرادا بطاعة مولاه وتبعيدا لشره عنهم، (ولا يؤلف) لأنه لا يترك الناس ألفته إلا لقبح حاله، ولسوء خلقه ورداءة عشرته " انتهى من "التنوير شرح الجامع الصغير" (10 / 450 – 451).
فإذا تبيّن هذا، فإن الخير المنفي عن الذي لا يُؤلف هو ما كان بسبب سوء خلقه ومعاملته .
وينبغي للمؤمن أن يكون بشوشا ويبتسم في وجوه الناس ، ويعود نفسه على ذلك ، ويحسن إليهم بالقول والفعل، حتى ولو كانت ملامحه الأصلية تشيء بخلاف ذلك، فينبغي أن يدرب نفسه على إظهار البشر، وتكلف التبسم في وجوه الناس، فهذا أدب نبوي رفيع، وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( وَتَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ صَدَقَةٌ ) – روه الترمذي وغيره، وصححه الألباني - .
ومن المعلوم أن خلائق الأناس، وأحواله: تتحسن، وتتطور، بالمعالجة، والمجاهدة، وتدريب النفس عليها.
وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( إِنَّمَا الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ , وَالْحِلْمُ بِالتَّحَلُمِ , وَمَنْ يَتَحَرَّ الْخَيْرَ يُعْطَهُ , وَمَنْ يَتَوَقَّ الشَّرَّ يُوقَهُ ) – رواه البيهقي في "المدخل" (385)، وغيره، وحسنه الألباني.
ويوشك إن جاهدت نفسك على ذلك، أن يألفك الناس، ويروا منك البشر، وتذوب الحواجز بينك وبينهم، رويدا، رويدا؛ ومن يتحرَّ الخيرَ يُعطه، فإنه إذا فعل ذلك ألفه الناس وأحبوه .
والله أعلم.
تعليق