الحمد لله.
أولا:
صلاة الجماعة واجبة على الرجال القادرين ممن يسمع النداء؛ لأدلة كثيرة، منها: ما روى البخاري (644)، ومسلم (651) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ بِحَطَبٍ، فَيُحْطَبَ، ثُمَّ آمُرَ بِالصَّلاَةِ، فَيُؤَذَّنَ لَهَا، ثُمَّ آمُرَ رَجُلًا فَيَؤُمَّ النَّاسَ، ثُمَّ أُخَالِفَ إِلَى رِجَالٍ، فَأُحَرِّقَ عَلَيْهِمْ بُيُوتَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ يَعْلَمُ أَحَدُهُمْ، أَنَّهُ يَجِدُ عَرْقًا سَمِينًا، أَوْ مِرْمَاتَيْنِ حَسَنَتَيْنِ، لَشَهِدَ العِشَاءَ).
والعرْق : العظم.
ومرماتين: هو ما بين ظِلْفي الشاة من اللحم، والظّلف: الظفر.
قال ابن المنذر رحمه الله: "وفي اهتمامه بأن يُحَرِّقَ على قوم تخلفوا عن الصلاة بيوتهم: أبينُ البيان على وجوب فرض الجماعة؛ إذ غير جائز أن يحرِّق الرسول صلى الله عليه وسلم مَن تخلف عن ندب، وعما ليس بفرض" انتهى من "الأوسط" (4/134).
ثانيا:
يُعذر في ترك الجماعة من كان موكلا بحراسة أمرٍ يضيع بترك حراسته؛ كحراسة مال أو بستان ونحوه، كما نص الفقهاء.
قال في "كشاف القناع" (1/496): " ويعذر في ترك الجمعة والجماعة من يدافع الأخبثين: البول والغائط ...
أو كان مستَحفَظا على شيء يخاف عليه الضياع إن ذهب وتركه، كناطور بستان ونحوه؛ لأن المشقة اللاحقة بذلك أكثر من بَلِّ الثياب بالمطر الذي هو عذرٌ بالاتفاق" انتهى.
ومن صور الحراسة المعاصرة التي تعد عذرا في ترك الجماعة ، لمن كان مكلفا بها : من كان يحرس المصلين، أو يعمل على تنظيم دخولهم المسجد، ودفع الضرر عنهم بالزحام وغيره في أماكن التجمعات الكبيرة ، وعلى رأسها الحرمان الشريفان؛ بل الذي يظهر أن القيام على حراسة أمن المصلين، وتنظيم شؤونهم في مثل الحرمين، مع الكثرة الكاثرة من الداخلين والخارجين، وأخلاط الناس العظيمة: أولى بالاعتبار من كل ما سبق ذكره عن الفقهاء؛ فإن في تضييع ذلك أو إهماله فسادًا عظيمًا، وضررًا وخطرًا منتشرًا لا ينضبط.
وعليه؛ فالذي يظهر: أنه لا حرج على القائمين على حفظ الأمن والحراسات في الحرمين الشريفين، ولا حرج كذلك على القائمين على الخدمات التي يحصل الضرر بتركها شاغرة أوقات قيام الصلاة، من التخلف عن صلاة الجمعة والجماعة.
ثم ينبغي على من تخلف عن الجماعة منهم: أن يؤدي صلاته بعد، في وقتها، جماعة مع زملائه إن تيسر لهم ذلك، وإلا صلاها وحده.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "من كان في مركز هام بإخلائه إياه يُخشى ضرر على الأنفس والأموال إذا أخلاه وذهب لصلاة الجماعة : فإنه يسوغ له ملازمة مركزه ، ويسقط عنه حضور الجماعة في المسجد.
وإن أمكن فعلها جماعة في المركز، كاثنين فأكثر: تعين صلاتهم جماعة" انتهى من فتاوى ورسائل الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ (2/ 312).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله:" "الحراسة عذر، فالحارس على الشيء المهم الذي يخشى عليه: ليس له أن يدعه ويذهب إلى صلاة الجمعة والجماعة، بل عليه أن يصلي في محله، ويسقط عنه حضور الجمعة والجماعة في هذه الحالة، إلا إذا وجد من ينوب عنه، ممن لا جمعة عليه، كالمملوك والنساء وأشباه ذلك" انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (2/986).
وجاء في "فتاوى اللجنة الدائمة" (8/ 189): " ولكن إذا وجد عذر شرعي لدى من تجب عليه الجمعة، كأن يكون مسؤولا مسؤولية مباشرة عن عمل يتصل بأمن الأمة، وحفظ مصالحها، يتطلب قيامه عليه وقت صلاة جمعة، كحال رجال الأمن والمرور والمخابرات اللاسلكية والهاتفية ونحوهم، الذين عليهم النوبة وقت النداء الأخير لصلاة جمعة أو إقامة الصلاة جماعة، فإنه وأمثاله يعذر بذلك في ترك الجمعة والجماعة؛ لعموم قول الله سبحانه: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وقول رسول الله عليه الصلاة والسلام: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم).
ولأنه ليس بأقل عذرا ممن يعذر بخوف على نفسه أو ماله، ونحو ذلك، ممن ذكر العلماء أنه يعذر بترك الجمعة والجماعة ما دام العذر قائما.
غير أن ذلك لا يسقط عنه فرض الظهر، بل عليه أن يصليها في وقتها، ومتى أمكن فعلها جماعة وجب ذلك كسائر الفروض الخمسة" انتهى.
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " ما حكم تخلف الحارس للأسواق عن صلاة الجماعة؟
فأجاب بقوله: "من كانت هذه حاله، وكان مسؤولا عن حراسة الأسواق والأحياء: فإنه معذور بترك الجماعة، وقد نص على ذلك أهل العلم رحمهم الله، فذكروا في أعذار الجماعة من كان موكلاً بحراسه مال أو بستان أو نحو ذلك.
وحراسة الأحياء عن الشر والفساد حاجة الناس إليها أعظم من حاجة صاحب البستان إلى حراسة بستانه.
وعلى هذا فيكون هذا الرجل الموكل بحراسة الأحياء معذورا بترك الجماعة، ولكن يجب عليه أن يصلي الصلاة في وقتها، ولا يحل له تأخيرها عن الوقت.
وعليه؛ فتجب مراعاة التناوب بين الحراس؛ ليتمكن كل منهم من أداء الصلاة في الوقت." انتهى من "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (15/34).
كما أنه ينبغي على المسؤولين المباشرين على هذه القطاعات مراعاة ألا يتكرر على العاملين فيها ترك أكثر من جمعة بشكل متتالٍ، لما جاء عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما سمعا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول على أعواد منبره: (لَيَنْتَهِيَنَّ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ، أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ) رواه مسلم.
وعن أبي الْجَعْدِ الضَّمْرِيِّ رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَنْ تَرَكَ ثَلَاثَ جُمَعٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ) رواه أبو داود والنسائي والترمذي وحسنه.
والختم والطبع على القلب، والعياذ بالله: هو نهاية ما يحصل من حرمانه من الخير، وصرفه عن الانتفاع بوجوه الهدى، واستحكام الأقفال على قلبه، فلا ينتفع بموعظة، ولا يستبين للهدى سبيلا!
ولأن الترك المتكرر يُحدث عند الإنسان إلف ذلك الأمر، فتضعف مبالاته به، ويحصل عنده من التفريط مالا تحمد عقباه، حتى ربما فرط، حيث لا يكون معذورا بتفريطه!!
ثالثا:
مما تفضّل الله به على عباده أنّ كل من انقطع، أو حبس عن طاعةٍ، كان ملازما لها في وقت السعة، وأزمان الرخاء، لكن حبسه العذر عنها، وهو عازم عليها إذا زال عذره؛ فإنه يحصل له أجر تلك العبادة.
فعن أبي موسى قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) البخاري (2834).
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَعَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَدَنَا مِنَ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: (إِنَّ بِالْمَدِينَةِ أَقْوَامًا، مَا سِرْتُمْ مَسِيرًا، وَلَا قَطَعْتُمْ وَادِيًا إِلَّا كَانُوا مَعَكُمْ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ؟ قَالَ: وَهُمْ بِالْمَدِينَةِ، حَبَسَهُمُ الْعُذْرُ) البخاري (4161).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (6/47): " وَفِيهِ أَنَّ اَلْمَرْءَ يَبْلُغُ بِنِيَّتِهِ أَجْرَ الْعَامِلِ؛ إِذَا مَنَعَهُ اَلْعُذْر عَنْ اَلْعَمَلِ" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "معنى الحديث: أنّ الإنسان إذا نوى العمل الصالح، ولكنه حبسه عنه حابس؛ فإنه يكتب له أجر ما نوى" انتهى من "شرح رياض الصالحين" (1/36).
وعليه؛ فإن المحافظين على صلاة الجمعة والجماعة، المواظبين عليهما في أوقات السعة، إذا تعذر عليهم حضورهما بسبب انشغالهم بأعمال الأمن والحراسة والمصالح العامة في الحرمين الشريفين وغيرها: يكتب لهم ثوابهما، إن شاء الله.
رابعًا:
الواجب على المسلم أن يؤدي الصلوات الخمس في أوقاتها؛ لقوله تعالى: ( فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا ) " أي: مفروضا في وقته" انتهى. "تفسير السعدي" (ص 198).
فمن أخرج الصلاة عن وقتها فقد فرّط.
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّمَا التَّفْرِيطُ عَلَى مَنْ لَمْ يُصَلِّ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِيءَ وَقْتُ الصَّلَاةَ الْأُخْرَى ) رواه مسلم (681).
وقد ورد الوعيد الشديد على هذا التفريط، قال الله تعالى: ( فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ) .
روى الطبري في "تفسيره" (24 / 659 - 660): بإسناده عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْد بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي، أَرَأَيْتَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: ( الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ ) أَهِيَ تَرْكُهَا؟
قَالَ: "لَا، وَلَكِنْ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا"، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (1/371).
وقال الله تعالى: ( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ، إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا ) .
والحراسة في الحرمين، عذر في التخلف عن الجماعة، ولكنها ليست عذرا في إخراج الصلاة عن وقتها.
والله أعلم.
تعليق