الحمد لله.
الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة كما قال الله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ الحديد/20.
قال ابن عطية رحمه الله في تفسيره (5/ 266): "هذه الآية وعظ، وتبيين لأمر الدنيا وضَعَةِ منزلتها، و: (الْحَياةُ الدُّنْيا) في هذه الآية عبارة عن الأشغال والتصرفات والفِكَر التي هي مختصة بالحياة الدنيا، وأما ما كان من ذلك في طاعة الله وسبيله، وما كان من الضرورات التي تقيم الأَوَدَ، وتعين على الطاعات: فلا مدخل له في هذه الآية. وتأمل حال الملوك بعد فقرهم يتبين لك أن جميع نزوتهم (لَعِبٌ وَلَهْوٌ).
والزينة: التحسين الذي هو خارج من ذات الشيء، والتفاخر: هو بالأنساب والأموال وغير ذلك والتكاثر: هو الرغبة في الدنيا، وعُدَدِها، لتكون العزة للكفار على المذهب الجاهلي.
ثم ضرب تعالى مثل الدنيا، فالكاف في قوله: (كَمَثَلِ) في محل رفع صفة لما تقدم، وصورة هذا المثال: أن الإنسان ينشأ في حجر مملكة فما دون ذلك، فيشب ويقوى، ويكسب المال والولد، ويغشاه الناس، ثم يأخذ بعد ذلك في انحطاط، فيشيب ويضعف ويسقم، وتصيبه النوائب في ماله وذريته، ويموت ويضمحل أمره، وتصير أمواله لغيره، وتغير رسومه، فأمره مثل مطر أصاب أرضا فنبت عن ذلك الغيث نبات مُعجِبٌ أنيق. ثم هاج: أي يبس واصفر، ثم تحطَّم، ثم تفرق بالرياح واضمحل" انتهى.
وقال السعدي رحمه الله في تفسيره، ص 841: "يخبر تعالى عن حقيقة الدنيا وما هي عليه، ويبين غايتها وغاية أهلها، بأنها لعب ولهو، تلعب بها الأبدان، وتلهو بها القلوب، وهذا مصداقه ما هو موجود وواقع من أبناء الدنيا، فإنك تجدهم قد قطعوا أوقات أعمارهم بلهو القلوب، والغفلة عن ذكر الله، وعما أمامهم من الوعد والوعيد، وتراهم قد اتخذوا دينهم لعبا ولهوا، بخلاف أهل اليقظة وعمال الآخرة، فإن قلوبهم معمورة بذكر الله، ومعرفته ومحبته، وقد أشغلوا أوقاتهم بالأعمال التي تقربهم إلى الله، من النفع القاصر والمتعدي.
وقوله: وَزِينَةً أي: تزيُّنٌ في اللباس والطعام والشراب، والمراكب والدور والقصور والجاه وغير ذلك, وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ أي: كل واحد من أهلها يريد مفاخرة الآخر، وأن يكون هو الغالب في أمورها، والذي له الشهرة في أحوالها، وَتَكَاثُرٌ فِي الأمْوَالِ وَالأوْلادِ أي: كل يريد أن يكون هو الكاثرَ لغيره في المال والولد، وهذا مصداقه وقوعه من محبي الدنيا والمطمئنين إليها.
بخلاف من عرف الدنيا وحقيقتها، فجعلها معبرا ولم يجعلها مستقرا، فنافس فيما يقربه إلى الله، واتخذ الوسائل التي توصله إلى الله، وإذا رأى من يكاثره وينافسه بالأموال والأولاد، نافسه بالأعمال الصالحة.
ثم ضرب للدنيا مثلا بغيث نزل على الأرض، فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام، حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، وأعجب نباتُه الكفارَ، الذين قصروا همهم ونظرهم إلى الدنيا، جاءها من أمر الله ما أتلفها، فهاجت ويبست، فعادت على حالها الأولى، كأنه لم ينبت فيها خضراء، ولا رؤي لها مرأىً أَنيقٌ، كذلك الدنيا، بينما هي زاهيةٌ لصاحبها زاهرة، مهما أراد من مطالبها حصَّل، ومهما توجه لأمر من أمورها وجد أبوابه مفتحة، إذ أصابها القدر بما أذهبها من يده، وأزال تسلطه عليها، أو ذهب به عنها، فرحل منها صفر اليدين، لم يتزود منها سوى الكفن، فتبا لمن أضحت هي غاية أمنيته ولها عمله وسعيه.
وأما العمل للآخرة فهو الذي ينفع، ويدخر لصاحبه، ويصحب العبد على الأبد" انتهى.
فهذا حال الدنيا وأهلها، يلعبون ويلهون ويتزينون ويتفاخرون، وليس في الآية أن الدنيا دار سعادة وهناء حتى يقال: كيف وفيها غم وهم وكدر؟! فهذا أمر آخر لم تتعرض له الآية.
واللعب واللهو والتزين والتفاخر لا يلزم منه السعادة، بل كثير ممن نال ذلك هم أكثر الناس شقاء وغما؛ لأن النفس كلما بعدت عن الله ازداد همها وشقاؤها وتعاستها.
قال ابن القيم رحمه الله: " فإن المعرض عما بعث الله تعالى به محمدا صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق يتقلب في خمس ظلمات، قوله ظلمة، وعمله ظلمة، ومدخله ظلمة، ومخرجه ظلمة، ومصيره إلى الظلمة، فقلبه مظلم، ووجهه مظلم، وكلامه مظلم، وحاله مظلمة" انتهى من "اجتماع الجيوش الإسلامية" (2/ 57).
والله أعلم.
تعليق