الأحد 16 جمادى الأولى 1446 - 17 نوفمبر 2024
العربية

كيف نوفق بين قوله تعالى (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) وصعوبة حفظ القرآن؟

463531

تاريخ النشر : 04-12-2023

المشاهدات : 5056

السؤال

قال تعالى :(وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ)، البعض قالوا: إنهم حاولوا مرارا وتكرارا لكنهم لا يستطيعون حفظ القرآن، فلماذا يجدُ بعض الناس صعوبةً في حفظ القرآن، مع أنّ الله تعالى قال إنه قد جعل القرآن سهل التذكُّر؟ وهل هناك أيُّ أسباب تجعل المرء يجد صعوبة في حفظ القرآن؟

الجواب

الحمد لله.

أولاً:

 لا يوجد تعارض حقيقي بين آية أو حديث صحيح وبين الواقع، وما يظهر عند البعض من التعارض بين بعض النصوص وبين ما يراه في الواقع، إنما هو بسبب عدم فهم الشخص لمدلولات ألفاظ النص، وأحياناً عدم استيعابه للنصوص المقيِدة لما هو مطلق، أو تخصيص ما هو عام، ونحو ذلك. أو الخطأ في تنزيله على الواقع.

وعليه؛ فلا تعارض بين قوله تعالى: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ ، وبين ما يجده بعض الناس من صعوبة الحفظ؛  لأنّ المعنى الأرجح للآية يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ أي للاتعاظ، بدليل قوله تعالى في آخر الآية (فهل من  مدكر).

يقول الطبري رحمه الله:

"وقوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ) يقول تعالى ذكره: ولقد سهَّلنا القرآن؛ بيَّناه وفصلناه.

(للذكر): لمن أراد أن يتذكر ويعتبر ويتعظ، وهوّناه.

وقوله: (فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول: فهل من معتبر متَّعظ، يتذكر، فيعتبر بما فيه من العبر والذكر" انتهى من " تفسير الطبري" (22/584).

وقال أيضا: "وقوله (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) يقول تعالى ذكره: ولقد سهَّلنا القرآن للذكر؛ لمن أراد التذكر به، فهل من متعظ، ومعتبر به، فينزجر به عما نهاه الله عنه إلى ما أمره به وأذن له فيه" انتهى من "تفسير الطبري" (22/600).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قوله تعالى: ‌وَلَقَدْ ‌يَسَّرْنَا ‌الْقُرْآنَ ‌لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17] ، قوله: يَسَّرْنَا أي: سهلنا، والقرآن هو كتاب الله الذي نزل على محمد صلى الله عليه وسلم، وسمي قرآناً لأنه يقرأ -أي: يتلى- وقوله: لِلذِّكْرِ قال بعضهم: للحفظ، وأن القرآن ميسر لمن أراد أن يحفظه، وقيل: المراد بالذكر: الادكار والاتعاظ، أي: أن من قرأ القرآن ليتذكر به ويتعظ به سهل عليه ذلك، واتعظ وانتفع، وهذا المعنى أقرب للصواب، بدليل قوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ أي: هل أحد يدكر مع أن الله سهل القرآن للذكر؟!!

أفلا يليق بنا وقد يسر الله القرآن للذكر أن نتعظ ونتذكر؟! بلى. وهذا هو اللائق بقوله: فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (183/ 7 بترقيم الشاملة).

ثانياً:

ذهب بعض أهل التفسير أن من التيسير المراد بالآية: تيسير حفظه.

قال القاضي عياض رحمه الله: "(ولقد يسرنا القرآن للذكر) وسائر الأمم لا يحفظ كتبها الواحد منهم، فكيف الجماء على مرور السنين عليهم .. والقرآن ميسر حفظه للغلمان في أقرب مدة" انتهى من "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" (1/540).

وقال ابن عطية رحمه الله:"(يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ) معناه: سهلناه وقربناه. و(الذكر): الحفظ عن ظهر قلب، قال ابن جبير: لم يُستظهر من كتب الله سوى القرآن" انتهى من "تفسير المحرر الوجيز" (5/ 215).

ولا تعارض بين هذا المعنى للآية وبين ما يجده بعض الناس من صعوبة الحفظ، فالأحكام للغالب، ولمن بذل الأسباب الحقيقية لتحصيل ذلك؛ لذا ترى أنه لا يوجد كتاب محفوظ في العالم مثل القرآن بهذا العدد الكبير من الآيات، يحفظه الملايين في أصقاع متفرقة بنفس اللفظ والحركات والأداء، أطفالاً وشباباً وشيوخاً رجالاً ونساء، وهذا من التيسير.

فمن أخذ بالأسباب المعينة على الحفظ وثابر عليه فتح له، وأصبح عليه ميسراً، ومن ترك الأسباب فإن القرآن عزيز، فإذا أنزلته منزلته فتح لك فيه.

فقد روى الدارمي بسنده عن مطر الوراق: ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر قال: هل من طالب خير فيعان عليه؟ "الدارمي (352).

قال القشيري رحمه الله: "يسّرنا قراءته على ألسنة الناس، ويسّرنا علمه على قلوب قوم، ويسّرنا فهمه على قلوب قوم، ويسّرنا حفظه على قلوب قوم، وكلّهم أهل القرآن، وكلّهم أهل الله وخاصته" انتهى من "لطائف الإشارات" (3/ 497).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " المعنى: أن الله تعالى يسر القرآن، أي: يسر معانيه لمن تدبره، ويسر ألفاظه لمن حفظه، فإذا اتجهت اتجاهاً سليماً إلى القرآن للحفظ: يسره الله عليك، وإذا اتجهت اتجاهاً حقيقياً إلى التدبر وتفهم المعاني: يسره الله عليك " انتهى من " لقاء الباب المفتوح بترقيم الشاملة " (184/ 13).

والحاصل:

أنه لا تعارض بين تيسير القرآن للتذكر والعظة، وتيسيره أيضا للحفظ والمدارسة، لا يتعارض ذلك مع وجود من يشق عليه حفظ القرآن، فإن تيسيره حاصل مشهود في واقع الناس، فيحفظه الملايين من البشر، عربهم وعجمهم؛ لكن لا يلزم أن يتيسر ذلك لكل إنسان على حدته، ويتحقق حفظه لكل شخص بعينه؛ فالتيسير حاصل صادق بدون ذلك، كما هو مشهود.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب