الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

هل مباعدة وجه الصائم عن النار سبعين خريفا تعارض ما ثبت في الحديث الصحيح (الصوم لي وأنا أجزي به)؟

467746

تاريخ النشر : 30-01-2024

المشاهدات : 3358

السؤال

ما كيفية الجمع بين حديث (مَن صامَ يَوْمًا في سَبيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا)، فهنا وضح النبي صلى الله عليه وسلم أن أجر الصيام أن يباعد الله بين الصائم والنار 70 سنة، وبين حديث ( كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ )، هذا الحديث يدل على أن أجر الصوم لا يعلمه إلا الله؟

الجواب

الحمد لله.

الصوم لا يعلم جزاءه إلا الله، كما قال الله تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ الزمر/10، والصوم من الصبر، وكما روى البخاري (5927)، ومسلم (1151) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:

قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ، إِلَّا الصِّيَامَ، هُوَ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.

فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَخُلْفَةُ فَمِ الصَّائِمِ، أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ

.

وفي رواية لمسلم: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ، الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ.

قال ابن بطال رحمه الله في "شرح البخاري" (4/10): " وأما معنى قوله: (وأنا أجزى به) ، فأنا المنفرد بجزائه على عمله ذلك لى بما لا يعلم كنه مبلغه غيرى، إذ كان غير الصيام من أعمال الطاعة قد علم غيرى بإعلامى إياه أن الحسنة فيها بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف.

قال المؤلف: وقد روى يحيى بن بكير عن مالك في هذا الحديث بعد قوله: (الحسنة بعشر أمثالها) ، فقال: (كل حسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف؛ إلا الصيام فهو لي وأنا أجزى به)؛ فخص الصيام بالتضعيف على سبعمائة ضعف في هذا الحديث.

وقد نطق التنزيل بتضعيف النفقة في سبيل الله أيضًا كتضعيف الصيام، فقال عز وجل:  مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء البقرة/261.

وجاء في ثواب الصبر مثل ذلك وأكثر، فقال تعالى: إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ الزمر/10؛ فيحتمل والله أعلم أن تكون هاتان الآيتان نزلتا على النبي عليه السلام، بعدما أعلمه الله ثواب الصيام، لأنه لا ينطق عن الهوى، والفضائل إنما تدرك من طريق الوحى" انتهى.

وقال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (8/ 29): " قوله تعالى وأنا أجزي به بيان لعظم فضله وكثرة ثوابه؛ لأن الكريم إذا أخبر بأنه يتولى بنفسه الجزاء اقتضى عظم قدر الجزاء وسعة العطاء" انتهى.

وهذه المضاعفة التي لا يعلم قدرها إلا الله، لا تنافي أن يطلعنا الله على بعض جزاء الصائمين، ككون اليوم بعشرة أيام، وكونهم يدخلون الجنة من باب خاص يقال له الريان، وكون صوم يوم في سبيله يباعد عن النار سبعين عاما، وكون الصيام يكون عن يمين الميت في قبره فلا يُدخل إليه من تلك الجهة، وغير ذلك، فهذا شيء يسير مما أعد الله للصائم.

روى البخاري (2840)، ومسلم (1153) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا).

قال القرطبي رحمه الله في "المفهم" (10/ 6): " وقوله : "من صام يومًا في سبيل الله"؛ أي : في طاعة الله ؛ يعني بذلك: قاصدًا به وجه الله تعالى. وقد قيل فيه: إنه الجهاد في سبيل الله.

وقوله : "سبعين خريفًا"؛ أي : سنَّة ، وهو على جهة المبالغة في البُعد عن النار ، وكثيرًا ما تجيء "السبعون" عبارة عن التكثير ، كما قال تعالى : (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم)." انتهى.

وقال ابن دقيق العيد رحمه الله: " قوله " في سبيل الله " العرف الأكثر فيه: استعماله في الجهاد، فإذا حمل عليه: كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين، أعني عبادة الصوم والجهاد، ويحتمل أن يراد بسبيل الله: طاعته كيف كانت. ويعبر بذلك عن صحة القصد والنية فيه، والأول: أقرب إلى العرف" انتهى من "إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام" (2/ 37).

ومن تأمل الحديث تبين له أن لم يذكر فيه نعيم الصائم وثوابه، وغاية ما فيه أنه يباعد عن النار، وهذه "فضيلة" من فضائل الصيام، وبركة من بركاته، لكن أين نعيمه وثوابه ومنزلته ودرجته عند الله؟ أين حسناته التي تزيد على سبعمائة ضعف؟

وعن أبي هريرة أيضاً عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (إنَّ الميِّتَ إذا وُضعَ في قبْرِه إنَّه يَسْمعُ خَفْقَ نِعالهم حينَ يُوَلُّون مدْبِرينَ، فإنْ كان مؤْمِناً كانتِ الصلاةُ عند رأْسِه، وكانَ الصيامُ عنْ يَمينِه، وكانَتِ الزكاةُ عَنْ شِمالَه، وكان فعلُ الخيرات منَ الصدقة والصلاةِ والمعْروفِ والإحْسانِ إلى الناسِ عند رجْلَيْهِ، فيُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رأْسِه فتقولُ الصلاةُ: ما قِبلي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتى عَنْ يَمينِه فيقولُ الصيامُ: ما قِبَلي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتى عنْ يَسارِه فتقولُ الزكاةُ: ما قِبَلي مَدْخَلٌ، ثُمَّ يُؤْتَى مِنْ قِبَلِ رجْلَيْه فيقولُ فِعْلُ الخيْراتِ مِنَ الصدَقَةِ والصلاةِ والمعْروفِ والإحْسانِ إلى الناسِ: ما قِبَلي مَدْخَلٌ...) الحديث، رواه الطبراني في "الأوسط" (2630)، وابن حبان في صحيحه (311)، وحسنه الألباني في "صحيح الترغيب والترهيب" (3561)، وحسنه شعيب في تحقيق ابن حبان.

وهذه أيضا فضيلة من فضائل الصيام، وليست هي "ثواب" الصيام، وأجره عند الله .

وقد اعترض القرطبي على القول بأن ثواب الصوم لا يعلمه إلا الله، بما ثبت " أن صوم اليوم بعشر، وأن صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وصيام رمضان صيام الدهر . وهذه نصوص في إظهار التضعيف ، فَبَعُدَ هذا الوجه، بل بطل" انتهى من "المفهم" (10/ 3).

وتعقبه الحافظ ابن حجر فقال: " قلت: لا يلزم من الذي ذكر بطلانه، بل المراد بما أورده: أن صيام اليوم الواحد يكتب بعشرة أيام، وأما مقدار ثواب ذلك فلا يعلمه إلا الله تعالى، ويؤيده أيضا العرف المستفاد من قوله: (أنا أجزي به)؛ لأن الكريم إذا قال: أنا أتولى الإعطاء بنفسي، كان في ذلك إشارة إلى تعظيم ذلك العطاء وتفخيمه" انتهى من "الفتح" (4/ 108).

والحاصل: أن ثواب الصائم لا يعلمه إلا الله، بل يجزى بغير حساب.

والله أعلم.
 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب