الحمد لله.
أولا:
المهر حق للزوجة، ولها التنازل عنه أو عن بعضه، فلها أن تهب ما قبضته منه، ولها أن تعفو عما لم تقبضه، فإن فعلت وكانت بالغة رشيدة: سقط ذلك عن الزوج، ولم تجز مطالبته به.
قال الله تعالى: وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا النساء/4.
قال القرطبي رحمه الله في تفسيره (5/24): " قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) مُخَاطَبَةٌ لِلْأَزْوَاجِ، وَيَدُلُّ بِعُمُومِهِ عَلَى أَنَّ هِبَةَ الْمَرْأَةِ صَدَاقَهَا لِزَوْجِهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا: جَائِزَةً، وَبِهِ قَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ " انتهى.
وقال ابن قدامة رحمه الله: " وإذا عفت المرأة عن صداقها الذي لها على زوجها، أو عن بعضه، أو وهبته له بعد قبضه، وهي جائزة الأمر في مالها: جاز ذلك، وصح. ولا نعلم فيه خلافا؛ لقول الله تعالى: إلا أن يعفون [البقرة: 237] يعني الزوجات. وقال تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا [النساء: 4] " انتهى من "المغني" (7/255).
ثانيا:
الأصل تحريم الرجوع في الهبة، فإن وهبت الزوجة صداقها لزوجها، لم يجز لها الرجوع في هبتها، إلا إن فعلت ذلك ليحسن عشرتها، فأساء عشرتها.
وذلك لما رواه البخاري (2589)، ومسلم (1622) عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَقِيءُ ثُمَّ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ.
وفي رواية للبخاري (2622) لَيْسَ لَنَا مَثَلُ السَّوْءِ الَّذِي يَعُودُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَرْجِعُ فِي قَيْئِهِ .
وروى أبو داود (3539)، والترمذي (2132)، والنسائي (3690)، وابن ماجه (2377) عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَحِلُّ لِرَجُلٍ أَنْ يُعْطِيَ عَطِيَّةً أَوْ يَهَبَ هِبَةً فَيَرْجِعَ فِيهَا، إِلَّا الْوَالِدَ فِيمَا يُعْطِي وَلَدَهُ. وَمَثَلُ الَّذِي يُعْطِي الْعَطِيَّةَ ثُمَّ يَرْجِعُ فِيهَا، كَمَثَلِ الْكَلْبِ يَأْكُلُ فَإِذَا شَبِعَ قَاءَ ثُمَّ عَادَ فِي قَيْئِهِ والحديث صححه الألباني في "صحيح أبي داود".
وروى مالك في "الموطأ" (1477) أن عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: " مَنْ وَهَبَ هِبَةً لِصِلَةِ رَحِمٍ أَوْ عَلَى وَجْهِ صَدَقَةٍ، فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ فِيهَا. وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً يَرَى أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ بِهَا الثَّوَابَ، فَهُوَ عَلَى هِبَتِهِ يَرْجِعُ فِيهَا إِذَا لَمْ يُرْضَ مِنْهَا ".
قال الألباني: " وهذا سند صحيح على شرط مسلم " انتهى من "إرواء الغليل" (6/55).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وهذا المنصوص جار على أصول المذهب الموافقة لأصول الشريعة، وهو أن كل من أُهدي أو وُهب له شيء بسببٍ، يثبت بثبوته، ويزول بزواله، ويحرم بحرمته ويحل بحله ..." انتهى من "الفتاوى الكبرى" (5/472).
وعليه؛ فإذا كانت زوجتك قد عفت عما لها من بقية المهر، وكانت بالغة رشيدة، فليس لها الرجوع في هبتها، إلا إن كانت وهبت لسبب ولم يتحقق لها.
ثالثا:
للمرأة أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تقبض صداقها المعجل لا المؤجل.
قال ابن قدامة رحمه الله: " فإن منعت نفسها حتى تتسلم صداقها , وكان حالاًّ , فلها ذلك.
قال ابن المنذر: وأجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم أن للمرأة أن تمتنع من دخول الزوج عليها حتى يعطيها مهرها ...
وإن كان بعضه حالاًّ وبعضه مؤجلاً , فلها منع نفسها قبل قبض العاجل دون الآجل ...
فإن سلمت نفسها قبل قبضه، ثم أرادت منع نفسها حتى تقبضه: فقد توقف أحمد عن الجواب فيها.
وذهب أبو عبد الله ابن بطة وأبو إسحاق بن شاقلا إلى أنها ليس لها ذلك. وهو قول مالك، والشافعي، وأبي يوسف، ومحمد؛ لأن التسليم استقر به العوض برضى المسلم، فلم يكن لها أن تمتنع منه بعد ذلك، كما لو سلم البائع المبيع " انتهى من "المغني" (7/260).
وإذا سلمت نفسها ودخل بها فليس لها منع نفسها، لا من الحال، ولا من المؤجل الذي حل.
قال في "الشرح الكبير" (21/303): " فإن كان الصَّداقُ مُوجَّلًا، فليس لها مَنْعُ نَفْسِها قبلَ قَبْضِه؛ لأَنَّ رِضاهَا بتَأْجِيلِه رِضًا منها بتَسْليمِ نَفْسِها قبلَ قَبْضِه، كالثَّمَنِ المُؤَجَّلِ في البَيْعِ.
فإن حَلَّ المُؤَجَّلُ قبلَ تَسليمِ نَفْسِها، لم يَكُنْ لها مَنْعُ نَفْسِها أيضًا؛ لأَنَّ التَّسْلِيمَ قد وَجَبَ عليها، واسْتَقَرَّ قبلَ قَبْضِه، فلم يكُنْ لها أن تَمْتَنِعَ منه " انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " قوله: وللمرأة منع نفسها حتى تقبض صداقها الحال الصداق على قسمين : إما حال ، وإما مؤجل .
فالمؤجل: ليس للمرأة طلبه، ولا المطالبة به، حتى يحل أجله ، وليس لها أن تمنع نفسها من الزوج ؛ لأن حقها لم يحل بعد.
لكن إذا كان المهر حالا غير مؤجل ، فإن لها أن تمنع نفسها حتى تقبضه .
مثال ذلك : رجل تزوج امرأة على صداق قدره عشرة آلاف ريال غير مؤجلة ، فقالت له : أعطني المهر ، فقال : انتظري ، فلها أن تمنع نفسها ، وتقول : لا أسلم نفسي إليك حتى تسلم المهر ؛ وذلك أن المهر عوض عن المنفعة، ويُخشى إن سلمت نفسها واستوفى المنفعة أن يماطل بها ويلعب بها ، فيُحرم منها حتى يسلم الصداق " انتهى من "الشرح الممتع" (12/314).
لكن هذا لا ينطبق على مسألتك لأمرين، سبق الكلام عليهما:
الأول: أن الزوجة تنازلت عن المؤجل.
الثاني: أنه قد تم الدخول، فليس لها الامتناع، لكن لها مقاضاة الزوج إن لم يعطها المهر في موعده.
وبناء على ما سبق، فعليك إبلاغ أبيها أنها تنازلت عن المؤجل، فلا وجه لمطالبتك به، ولا وجه من حيث الأصل لمنعها من زوجها لأجل المؤجل.
والله أعلم.
تعليق