الحمد لله.
السعي على الأهل والأولاد رتب الله عليه الأجر العظيم، وعلى الإنسان أن يسعى لتحصيل ما تتطلبه مستلزمات الحياة ليستغني عن الآخرين، إلا إنه ينبغي ألا يخرج عن حد الاعتدال، وأن يعلم الإنسان أن الله قد فاوت بين العباد في الأرزاق : نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ الزخرف/32.
كما أن على المرء أن يكون حذرا من أنّ تجره نفسه، أو يؤثر عليه من حوله -ممن يحب- على ما ينقص من دينه وورعه، فإنّ الله قد جعل هذا ابتلاء لخلقه، وخاصة ما يتعلق بتأثير النساء على الرجل في المطالبة بالكماليات والرفاهيات، وذلك لما جُبلت عليه من حب الزينة والترفه أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف: 18].، فالغالب في حال النساء هو التطلع إلى المزيد من متاع الدنيا، فعلى العاقل الحصيف أن يكون مؤدياً ما أمر الله به من النفقة والتوسعة على أهله وأولاده، دون أن يجره ذلك إلى أن يقع في المخالفات الشرعية، وأن تكون الدنيا أكبر همه، فإن كثيرا من ذلك يؤتي من قِبل تأثير من يحب من زوجة وولد.
قال الله تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ التغابن/14.
قال القرطبي رحمه الله: "وقال مجاهد: ما عادوهم في الدنيا، ولكن حملتهم مودتهم على أن أخذوا لهم الحرام فأعطوه إياهم" انتهى من "تفسير القرطبي" (18/142).
وقد نبه القرآن الكريم إلى هذه الظاهرة وحذر من الانجرار نحو المتاع الزائل والنظر لما في أيدي الناس من زينة الحياة الدنيا، لأنّ من دخل فيها غابت عنه الأهداف السامية والمعاني العالية. وقد جاء التحذير منها صراحة وضمناً إشارة وعبارة.
قال الله تعالى: وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى طه/131.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "أي: لا تنظر إلى أهل الدنيا وما متعوا به من النعيم، ومن المراكب، والملابس، والمساكن، وغير ذلك، فكل هذا زهرة الدنيا، والزهرة آخر مآلها الذبول واليبس والزوال، وهي أسرع أوراق الشجرة ذبولاً وزوالاً، ولهذا قال: زهرة، وهي زهرة حسنة في رونقها وجمالها وريحها ـ إن كانت ذات ريح ـ لكنها سريعة الذبول، وهكذا الدنيا، زهرة تذبل سريعاً، نسأل الله أن يجعل لنا حظاً ونصيباً في الآخرة" انتهى من "شرح رياض الصالحين" (3/45).
الحلول:
ومن الحلول التي تعزز معالجة ظاهرة التطلع لما في أيدي الناس من زينة الحياة الدنيا، وانشغال الإنسان بها عن معالي الأمور، وما هو خير منها:
1. تعزيز القناعة والإيمان بأن الله قسم الأرزاق لحكمة عنده، نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ
قال الشنقيطي رحمه الله: "يعني أنه تعالى لم يفوض إليهم أمر معايشهم وحظوظهم في الدنيا، بل تولى هو جل وعلا قسمة ذلك بينهم، فجعل هذا غنيًّا وهذا فقيرًا، وهذا رفيعًا وهذا وضيعًا، وهذا خادمًا وهذا مخدومًا، ونحو ذلك، فإذا لم يفوض إليهم حظوظهم في الدنيا، ولم يحكمهم فيها، بل كان تعالى هو المتصرف فيها بما شاء كيف شاء" " انتهى من "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن" (7/259).
وفي حديث التخليق (ثُمَّ يَبْعَثُ اللهُ مَلَكًا فَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ وَيُقَالُ لَهُ: اكْتُبْ عَمَلَهُ وَرِزْقَهُ وَأَجَلَهُ وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ الرُّوحُ) البخاري (3036).
2. أن العطاء والإمساك في الرزق ليس دليلا على محبة الله للعبد من عدمها أو رضاه عنه من عدمه، ولذا نفى الله هذا المفهوم الذي قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ * كَلَّا ....
قال ابن كثير رحمه الله: " يقول تعالى منكرا على الإنسان في اعتقاده إذا وسع الله عليه في الرزق ليختبره في ذلك، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له وليس كذلك، بل هو ابتلاء وامتحان. وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له. قال الله: كلا أي: ليس الأمر كما زعم، لا في هذا ولا في هذا، فإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب، ويضيق على من يحب ومن لا يحب" انتهى من "تفسير ابن كثير" (8/398).
3. أن الخير للإنسان قد يكون بعدم بسط الرزق، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ الشورى/ 27.
قال ابن كثير: "أي: لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض، أشرا وبطرا" انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/206):
وقال القرطبي: "قال الزمخشري:" لبغوا" من البغي وهو الظلم، أي لبغى هذا على ذاك وذاك على هذا، لأن الغنى مبطرة مأشرة، وكفى بقارون عبرة. ومنه قوله عليه السلام: (أخوف ما أخاف على أمتي زهرة الدنيا وكثرتها)" انتهى من "تفسير القرطبي" (16/27).
4. أنّ كثيراً ممن امتلكوا ما يتطلع له المتطلعون يعيشون هما وغما، وكلما ملكوا زادوا تطلعا (ولا يملأ عين ابن آدم إلا التراب). والواقع المشاهد أنّ كثيرا ممن يعيشون وضعا ماديا بسيطاً يتمتعون بسعادة غامرة واستقرار نفسي وأسري، ولما فُتح عليهم في جانب الرزق انقلبت حياتهم نكدا ومشاكل حتى مع أقرب وأحب الناس إليهم.
5. أن يجعل العاقل نظره ، في أمر الدنيا وزينتها، إلى من هو أسفل منه؛ فكلما رأيت غنيا، فاجعل نظرك إلى من هو أفقر منك، وإذا أعجبتك صحة امرئ، فانظر إلى من هو أشد مرضا منك؛ وهكذا؛ فبهذا يستريح قلبك، وتهدأ نفسك، وتعظم في عينك نعمة الله عليك. فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ إِذَا نَظَرَ أَحَدُكُمْ إِلَى مَنْ فُضِّلَ عَلَيْهِ في المَالِ وَالخَلْقِ ، فَلْيَنْظُرْ إِلَى مَنْ هُوَ أسْفَل مِنْهُ رواه البخاري (6490)، ومسلم (2963). وفي لفظ مسلم: انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللهِ - قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ – عَلَيْكُمْ .
والله أعلم.
تعليق