الحمد لله.
أولا:
روى الإمام مسلم (360) عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: " أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
أَأَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الْغَنَمِ؟
قَالَ: إِنْ شِئْتَ، فَتَوَضَّأْ. وَإِنْ شئت، فلا تتوضأ.
قَالَ : أَتَوَضَّأُ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ؟
قَالَ: نَعَمْ، فَتَوَضَّأْ مِنْ لُحُومِ الإِبِلِ.
فالحديث نص على الوضوء من أكل لحم الإبل.
واللحم بين الأسنان، ينطبق عليه اسم اللحم، وبلعه يعتبر أكلا مهما صغر حجم اللحم مادام له جرم، ولذا حكم أهل العلم على الصائم الذي يبتلع مختارا بقايا الطعام بين أسنانه أنه مفطر، كما سبق بيانه في جواب السؤال رقم: (78438).
ويصدق هذا أيضا على قطع اللحم الصغيرة المتبقية في المرق.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" فلو قال قائل: إذا أكل شيئا يسيرا كرأس العصفور يتوضأ أو لا؟ نعم يتوضأ، هل يمكن أن نقول: إذا أكل ما يفطر به الصائم توضأ، يعني: ولو يسيرا، يعني: ولو كان خلال الأسنان؟
الجواب: هذا هو الظاهر، ما دام أكل شيئا له جرم يصل إلى المعدة، فإنه يجب عليه أن يتوضأ " انتهى من "فتح ذي الجلال والإكرام" (1/267).
ثانيا:
وأما اللحم المسترجع من المعدة، فيرجع في حكمه إلى حصول صورة الأكل، فإن وصل اللحم المسترجع إلى مكان في الفم يستطيع صاحبه أن يطرحه خارج فمه، لكنه لم يفعل، واختار بلعه: فيعدّ آكلا، فعليه الوضوء.
وأما إذا لم يصل إلى محلّ في الفم يستطيع أن يطرحه منه ويلقيه خارج فمه، وذلك بأن بقي في أعلى الحلق، فهذا لا يعدّ آكلا إذا رجع إلى البطن، فليس عليه وضوء.
وهذه المسألة كمسألة الصائم إذا أصابه قلس، وقد سبق بيانها في جواب السؤال رقم: (40696).
ثالثا:
وأما المرق الخالي من اللحم فليس على شاربه ومتناوله وضوء؛ لأنه لا يصدق عليه أنه أكل لحم الإبل، وهو المذهب عند الحنابلة القائلين بالوضوء من لحم الإبل.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعال:
" مسألة: الوضوء من مرق لحم الإبل.
المذهب: أنه غير واجب، ولو ظهر طعم اللحم؛ لأنه لم يأكل لحما.
وفيه وجه للأصحاب: أنه يجب الوضوء؛ لوجود الطعم في المرق، كما لو طبخنا لحم خنزير، فإن مرقه حرام.
وهذا تعليل قوي جدا. فالأحوط أن يتوضأ، أما إذا كان المرق في الطعام، ولم يظهر فيه أثره فإنه لا يضر " انتهى من "الشرح الممتع" (1/307).
وقال رحمه الله تعالى:
" بعض العلماء قال: يجب الوضوء من مرق لحم الإبل، ومن ألبان الإبل...
لكن نقول: إنه قد دل الدليل على أن الوضوء من ألبان الإبل ليس بواجب في قصة العرنيين الذين اجتووا المدينة وأصابهم مرض، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلحقوا بإبل الصدقة، ويشربوا من أبوالها وألبانها، ولم يقل: توضئوا مع أن المقام يقتضي أن يقوله لو كان الوضوء واجبا؛ إذ إنهم قوم جهال بالشريعة يحتاجون إلى بيان، فهذا هو الذي منعنا أن نوجب الوضوء من ألبان الإبل، والمرق من باب أولى لا يجب " انتهى من "فتح ذي الجلال والإكرام" (1/267).
رابعا:
وأما اللحوم التي لا يُعلم مصدرها هل هي من الغنم أو البقر أو الإبل؛ فالأصل أن آكلها ليس عليه وضوء، حتى يعلم أنها من لحم الإبل؛ لأن الوضوء لا يجب بمجرد الشك، كما دلّ على هذه القاعدة حديث عَبْدِ اللهِ بْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُ شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ الَّذِي يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلاَةِ؟
فَقَالَ: لاَ يَنْفَتِلْ - أَوْ لاَ يَنْصَرِفْ - حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا رواه البخاري (137)، ومسلم (361).
قال النووي رحمه الله تعالى:
" وهذا الحديث أصل من أصول الإسلام، وقاعدة عظيمة من قواعد الفقه، وهي أن الأشياء يحكم ببقائها على أصولها حتى يُتيقن خلاف ذلك، ولا يضر الشك الطارئ عليها " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (4/49).
وبوّب عليه البخاري بقوله: " بَابُ لاَ يَتَوَضَّأُ مِنَ الشَّكِّ حَتَّى يَسْتَيْقِنَ ".
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" ثم اعلم أن الإنسان إذا كان على وضوء، ثم شك في وجود الناقض، بأن شك هل خرج منه بول أو ريح، أو شك في اللحم الذي أكله، هل هو لحم إبل أو لحم غنم، فإنه لا وضوء عليه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل، يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة فقال: ( لاَ يَنْصَرِفْ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا )، يعني حتى يتيقن ذلك، ويدركه بحواسه إدراكا معلوما لا شبهة فيه، ولأن الأصل بقاء الشيء على ما كان عليه حتى نعلم زواله، فالأصل أن الوضوء باق حتى نعلم زواله وانتقاضه " انتهى من "فقه العبادات" (ص 121).
والله أعلم.
تعليق