الحمد لله.
أولا:
يجوز للمريض رفض تركيب جهاز إنعاش القلب، ولو مات لا يعد بذلك منتحرا؛ وذلك أن التداوي لا يجب في قول جمهور العلماء، ومن أوجب التداوي، إنما أوجبه فيما يتقين نفعه، كمنع النزيف ونحو ذلك.
قال شيخ الإسلام رحمه الله : " ليس بواجب عند جماهير الأئمة ، إنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد " نقله السفاريني في "غذاء الألباب" (1/459).
وقال في "تحفة المحتاج" (3/182): " ونقل عياض الإجماع على عدم وجوبه ، واعتُرض بأن لنا وجهاً بوجوبه ، إذا كان به جرح يخاف منه التلف .
وفارق وجوبَ نحوِ إساغة ما غص به ، بخمر ، وربط محل الفصد ؛ لتيقّن نفعه " انتهى .
وفي حاشيته : " في باب ضمان الولاة من الأنوار، عن البغوي: أنه إذا علم الشفاء في المداواة وجبت " انتهى .
وفي حاشية قليوبي وعميرة" (1/403) : " وقال الإسنوي: يحرم تركه في نحو جرح يظن فيه التلف كالفصد " انتهى .
وقد أخذ مجمع الفقه الإسلامي بالقول بوجوب التداوي إذا كان تركه يفضي إلى تلف النفس أو أحد الأعضاء أو العجز ، أو كان المرض ينتقل ضرره إلى غيره ، كالأمراض المعدية . وينظر نص قرار المجمع في جواب السؤال رقم: (2148).
وهذا لا ينطبق على الجهاز الموضوع لإنعاش القلب عند توقفه، فهو وقاية من أمر قد يقع ولا يقع، وأيضا: لا يُتيقن نفعه لو حصل التوقف.
وقد سئل الشيخ صالح الفوزان حفظه الله: "ما حكم ترك التداوي من الأمراض التي يكون مع تركها الموت المُحقق كأمراض الفشل الكلوي، أو معالجة انسداد الشرايين ونحوها مما تيسر علاجه في هذا الزمان، فهل يجب عليه علاجه أم لا؟
فأجاب: ما يجب العلاج عند الجمهور، وإنما هو مُباح، وله أن يتركه.
وأما قوله: بأنه يُفضي إلى الموت المُحقق، فما هو بصحيح، قد يشفيه الله، وكم من مريض أيس منه الأطباء وأيس منه، وشفاه الله تعالى، أما أنه يقال: هذا المرض أنه يُفضي إلى الموت قطعًا فهذا غير صحيح، وإذا مات الحمد لله على ملة الإسلام" انتهى.
ثانيا:
التداوي مستحب على الراجح.
قال السفاريني رحمه الله في "غذاء الألباب" (1/457) : " وقيل : فعل التداوي أفضل من تركه , وبه قال بعض الشافعية . وذكر الإمام النووي في شرح مسلم أنه مذهب الشافعية وجمهور السلف وعامة الخلف , وقطع به ابن الجوزي من أئمتنا في المنهاج، والقاضي وابن عقيل وغيرهم , واختاره الوزير بن هبيرة في الإفصاح . قال : ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد حتى يداني به الوجوب . ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه , فإنه قال لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه " انتهى .
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: "الصواب في التداوي أنه مستحب ومشروع، ذكره النووي رحمه الله وآخرون عن جمهور العلماء، وأن قول الأكثرين أنه مستحب، وذهب بعض أهل العلم إلى أنه مستوي الطرفين ، لا يستحب ولا يكره بل هو حلال، وذهب آخرون إلى أن تركه أفضل، ويروى عن الصديق أنه قال لما قيل له: الطبيب؟ قال: الطبيب أمرضني ، ولكن لا أعلم صحة هذا عن الصديق، ولا أعرف صحة هذا عن الصديق.
فالمقصود : أن الذي عليه جمهور أهل العلم ، وهو الصواب : أن التداوي مستحب بالأدوية الشرعية المباحة...
فالمقصود : أن التداوي أمر مشروع على الصحيح ، وهو قول أكثر أهل العلم ، ومن تركه فلا حرج عليه، وإذا ظن نفعه واشتدت الحاجة إليه تأكد؛ لأن تركه يضر ، يتعب نفسه ، ويتعب أهله ويتعب خدامه، فالتداوي فيه مصالح لنفسه ولأهله، ولأن التداوي يعينه على أسباب الشفاء ويعينه على طاعة الله حتى يصلي في المسجد، حتى يقوم بأمور تنفع الناس وتنفعه، فإذا تعطل بسبب المرض تعطلت أشياء كثيرة، وإن كان يثاب عما كان يعمله في حال الصحة في حال المرض، كما في الحديث الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم : (إذا مرض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله وهو صحيح مقيم ) هذا من فضل الله جل وعلا، ولكن التداوي فيه مصالح كثيرة إذا كان بالوجه الشرعي والأدوية المباحة هذا هو الصواب، ومن قال: إنه مستوي الطرفين أو إن تركه أفضل فقوله مرجوح، والحق أحق بالاتباع، والأدلة الشرعية مقدمة على كل أحد" انتهى من فتاوى نور على الدرب.
ثالثا:
يجوز استعمال ما يمنع الحمل لحاجة كمرض الزوج وضعفه عن رعاية أولاده؛ لما ثبت من جواز العزل.
ويشترط في ذلك رضا الزوجة؛ لأن لها حقا في الولد.
فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (إن لي جارية، هي خادمنا وسانيتنا [أي ساقيتنا]، وأنا أطوف عليها، وأنا أكره أن تحمل، فقال: اعزل عنها إن شئت، فإنه سيأتيها ما قدر لها، فلبث الرجل، ثم أتاه فقال: إن الجارية قد حبلت، فقال: قد أخبرتك أنه سيأتيها ما قدر لها رواه مسلم (1439).
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: (كنا نعزل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن ينزل) رواه البخاري (4911).، وفي رواية: (كنا نعزل على عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم فبلغ ذلك نبي الله صلى الله عليه وسلم، فلم ينهنا) رواه مسلم (1440).
قال ابن قدامة رحمه الله: " والعزل مكروه، ومعناه أن ينزع إذا قرب الإنزال، فينزل خارجا من الفرج، رويت كراهته عن عمر، وعلي، وابن عمر، وابن مسعود. وروي ذلك عن أبي بكر الصديق أيضا؛ لأن فيه تقليل النسل، وقطع اللذة عن الموطوءة، وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على تعاطي أسباب الولد، فقال: تناكحوا، تناسلوا، تكثروا، ...
إلا أن يكون لحاجة، مثل أن يكون في دار الحرب، فتدعوه حاجته إلى الوطء، فيطأ ويعزل، ذكر الخرقي هذه الصورة، أو تكون زوجته أمة، فيخشى الرق على ولده، أو تكون له أمة، فيحتاج إلى وطئها وإلى بيعها، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يعزل عن إمائه.
فإن عزل من غير حاجة : كره ولم يحرم، ورويت الرخصة فيه عن علي، وسعد بن أبي وقاص، وأبي أيوب، وزيد بن ثابت، وجابر، وابن عباس، والحسن بن علي، وخباب بن الأرت، وسعيد بن المسيب، وطاوس، وعطاء، والنخعي، ومالك، والشافعي، وأصحاب الرأي" انتهى من "المغني" (7/ 298).
ولا يجوز منع الحمل لخوف الفقر.
قال الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله: "إذا كان المراد تنظيم فترات الحمل لمدة مؤقتة لظروف عائلية أو صحية لضعف المرأة وتضررها بالحمل أو خطورته على حياتها عند الولادة ، أو أنها تحمل قبل فطام طفلها الأول ، فيحصل بذلك ضرر عليها أو على طفلها ونحو ذلك : ففي مثل هذه الحالات يحوز استعمال الحبوب عند الحاجة إلى استعمالها، وهو شبيه بالعزل الذي كان يفعله الصحابة رضي الله عنهم أو أسهل منه...
وأما إن كان المراد باستعمال الحبوب قطع الحمل بالكلية ، لكراهة النسل أو خوف من زيادة النفقات عليه إذا كثروا أولاده ، ونحو ذلك : فهذا لا يحل ولا يجوز، لأنه سوء ظن برب العالمين، ومخالف لهدي سيد المرسلين" انتهى من "فتاوى محمد بن إبراهيم" (11/ 153).
والله أعلم.
تعليق