الحمد لله.
هذه المسألة قد تولّى بيانها القرآن الكريم، وهذا في قول الله تعالى:
يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ التحريم /1 – 2.
وممّا صح من سبب نزول هذه الآيات، ما رواه البخاري (5267)، ومسلم (1474) عَن عَائِشَةَ رضي الله عنها: " أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بْنَةِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا، فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ، فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا، بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بْنَةِ جَحْشٍ، وَلَنْ أَعُودَ لَهُ. فَنَزَلَتْ ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ )... .
ويستفاد من هذه الآيات أمران:
الأمر الأول:
يستفاد من عتاب الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم، النهي عن تحريم الإنسان على نفسه الحلال.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" وقوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ... ). وهذا الاستفهام استفهام إنكار يتضمن النهي؛ فإن الله لا يستفهم لطلب الفهم والعلم فإنه بكل شيء عليم؛ ولكن مثل هذا يسميه أهل العربية " استفهام إنكار "، واستفهام الإنكار يكون بتضمن الإنكار مضمون الجملة: إما إنكار نفي إن كان مضمونها خبرا، وإما إنكار نهي إن كان مضمونها إنشاء. والكلام إما خبر وإما إنشاء. وهذا كقوله: ( عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ )، وقوله: ( لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ) ونحو ذلك. فالله تعالى نهى نبيه عن تحريم الحلال كما نهى المؤمنين... " انتهى من "مجموع الفتاوى" ( 35/329).
وهذا كما في قوله تعالى:
يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المائدة /87.
الأمر الثاني:
أن الله تعالى قد جعل مخرجا لمن حرّم على نفسه شيئا مباحا وأراد أن يفعله ، وذلك بأنّ عليه كفارة يمين، وإذا لم يفعله فلا شيء عليه . ولهذا قال الله تعالى بعد عتاب نبيه صلى الله عليه وسلم: ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) التحريم (2).
وروى البخاري (4911)، ومسلم (1473) عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قَالَ فِي الْحَرَامِ : يُكَفِّر، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ).
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ومن هاهنا ذهب من ذهب من الفقهاء، ممن قال بوجوب الكفارة على من حرّم جاريته أو زوجته أو طعاما أو شرابا أو ملبسا أو شيئا من المباحات، وهو مذهب الإمام أحمد وطائفة... " انتهى من "تفسير ابن كثير" (8 /160).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
"فكل من حرّم حلالا عليه، من طعام أو شراب ، أو حلف يمينا بالله، على فعل أو ترك، ثم حنث أو أراد الحنث: فعليه الكفارة " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 873).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" لو حرم الإنسان شيئا مما أحل الله له فإنه يُنهى عن هذا.
ولكنه إذا فعل فإن لهذا الفعل حلا، وهو أن يُكَفِّر كفارة يمين ثم يعود إلى ما حرّمه على نفسه.
مثال ذلك لو قال: حرام علي أن أدخل بيت فلان، ثم أراد أن يدخله، نقول: ادخل البيت وكَفِّر كفارة يمين؛ لأن الله قال: ( قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ )...
فكل شيء أحله الله إذا حرمه الإنسان فإن له حكم اليمين، يكفر كفارة اليمين ثم يفعله " انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (2/399).
والله أعلم.
تعليق