الحمد لله.
أولا:
حديث النفس معفو عنه؛ لقول الله تعالى: (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا) البقرة/286، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنفُسَهَا مَا لَمْ يَتَكَلَّمُوا أَوْ يَعمَلُوا بِهِ) رواه البخاري (2528)، ومسلم (127).
قال القرطبي رحمه الله في "المفهم" (2/105): "يعني بذلك: أنَّ الذي لا يؤاخَذُ به هو الأحاديثُ الطارئةُ التي لا ثباتَ لها، ولا استقرارَ في النَّفْسِ، ولا رُكُونَ إليها" انتهى.
وقال النووي رحمه الله في "الأذكار" ص 345: "فأما الخواطر، وحديث النفس، إذا لم يستقرَّ ويستمرّ عليه صاحبُه: فمعفوٌ عنه باتفاق العلماء، لأنه لا اختيارَ له في وقوعه، ولا طريقَ له إلى الانفكاك عنه. وهذا هو المراد بما ثبتَ في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لأُمَّتِي ما حَدَّثَتْ بِهِ أنْفُسَها ما لَمْ تَتَكَلَّم بِهِ أوْ تَعْمَلْ ".
قال العلماء: المراد به الخواطر التي لا تستقرّ.
قالوا: وسواءٌ كان ذلك الخاطِرُ غِيبة أو كفراً أو غيرَه، فمن خطرَ له الكفرُ مجرّد خَطْرٍ من غير تعمّدٍ لتحصيله، ثم صَرفه في الحال، فليس بكافر، ولا شيء عليه.
وقد قدّمنا في " باب الوسوسة " في الحديث الصحيح أنهم قالوا: " يا رسولَ الله يجدُ أحدُنا ما يتعاظمُ أن يتكلَّمَ به، قال: ذلكَ صريحُ الإيمان "، وغير ذلك مما ذكرناه هناك وما هو في معناه.
وسببُ العفو ما ذكرناه من تعذّرٍ اجتنابه.
وإنما الممكن: اجتناب الاستمرار عليه؛ فلهذا كان الاستمرار وعقد القلب: حراما" انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "الفتح" (1/71) " وقال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أن أفعال القلوب يؤاخذ بها إن استقرت، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل" : فمحمول على ما إذا لم تستقر.
قلت: ويمكن أن يستدل لذلك من عموم قوله: "أو تعمل" لأن الاعتقاد هو عمل القلب" انتهى.
والكتابة عمل، وهي كالكلام.
قال في "البحر المحيط الثجاج" (3/565): " استُدلّ به على أن من كتب الطلاق طلّقت امرأته؛ لأنه عزم بقلبه، وعمل بكتابته، وهو قول الجمهور" انتهى.
ثانيا:
إذا كان حديث النفس المعفو عنه هو الخاطر الذي لا يستقر، فإن كتابته تخرج عن حديث النفس، وتجعله مستقرا، فيؤاخذ عليها الإنسان إن تضمنت محرما كالغيبة.
وكتابة الغيبة محرمة.
قال في "أسنى المطالب" (3/117): "والحاصل: أن الغِيبة، وهي ذكر الإنسان بما فيه مما يكره، ولو في ماله أو ولده أو زوجة أو نحوها : محرمة، سواء أذكره بلفظ، أم كتابة، أم إشارة بعين أو رأس أو يد، أو نحوها" انتهى.
وفي "الموسوعة الفقهية" (31/332): "ما تكون به الغيبة:
الغيبة تكون بالقول، وتكون بغيره، قال الغزالي: الذكر باللسان إنما حرم لأن فيه تفهيمَ الغير نقصانَ أخيك، وتعريفَه بما يكرهه؛ فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يُفهِم المقصود فهو داخل في الغيبة، وهو حرام، من ذلك قول عائشة رضي الله عنها: دخلت علينا امرأة، فلما ولت أومأتُ بيدي: أنها قصيرة، فقال عليه السلام: "اغتبتيها"" انتهى.
وعليه؛ فإن كتبت في مذكراتك ما يجري بينك وبين والديك دون ذكر شيء يكرهانه، فلا حرج.
وإن تضمنت الكتابة غيبة لهما، حرم ذلك، مع أن جريان ذلك في الخاطر لا يأثم به الإنسان؛ لكن ينبغي عليه أن يدافعه قدر الطاقة، ويغمره ببحر إحسانهما إليه، وفضلهما عليه؛ فإن الخاطر المعفو عنه: هو ما لا يستقر، ولا تركن النفس إليه، على ما سبق بيانه.
والله أعلم.
تعليق