الحمد لله.
من القواعد الكلية المقررة في الشريعة: أن الأشياء تبنى على أصولها المعلومة المتيقنة ، ويطرح الشك .
وتنوعت عبارات أهل العلم في تقرير ذلك الأصل؛ فقالوا: "اليقين لا يزول بالشك"، وقالوا: "الأصل بقاء ما كان على ما كان"؛ وهي متقاربة في تقرير هذا المعنى.
ينظر: "الأشباه والنظائر" لابن نجيم (60-62)، "الوجيز في إيضاح قواعد الفقه"، البورنو (102).
وقد استنبط العلماء هذه القاعدة من "أصول الشريعة العامة"، ومن أظهرها وأدلها، ما رواه البخاري (137) مسلم (361) أنه شُكِيَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَجِدُ الشَّيْءَ فِي الصَّلَاةِ . قَالَ : (لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا أَوْ يَجِدَ رِيحًا) .
قال النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم :
"وَقَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( حَتَّى يَسْمَع صَوْتًا أَوْ يَجِد رِيحًا ):
مَعْنَاهُ : يَعْلَم وُجُود أَحَدهمَا، وَلَا يُشْتَرَط السَّمَاع وَالشَّمّ، بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .
وَهَذَا الْحَدِيث أَصْل مِنْ أُصُول الْإِسْلَام، وَقَاعِدَة عَظِيمَة مِنْ قَوَاعِد الْفِقْه، وَهِيَ أَنَّ الْأَشْيَاء يُحْكَم بِبَقَائِهَا عَلَى أُصُولهَا حَتَّى يُتَيَقَّن خِلَاف ذَلِكَ . وَلَا يَضُرّ الشَّكّ الطَّارِئ عَلَيْهَا ...
وَمِنْ مَسَائِل الْقَاعِدَة الْمَذْكُورَة: أَنَّ مَنْ شَكَّ فِي طَلَاق زَوْجَته ، أَوْ عِتْق عَبْده ، أَوْ نَجَاسَة الْمَاء الطَّاهِر ، أَوْ طَهَارَة النَّجَس ، أَوْ نَجَاسَة الثَّوْب أَوْ الطَّعَام أَوْ غَيْره ، أَوْ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاث رَكَعَات أَوْ أَرْبَعًا ، أَوْ أَنَّهُ رَكَعَ وَسَجَدَ أَمْ لَا ، أَوْ أَنَّهُ نَوَى الصَّوْم أَوْ الصَّلَاة أَوْ الْوُضُوء أَوْ الِاعْتِكَاف ، وَهُوَ فِي أَثْنَاء هَذِهِ الْعِبَادَات، وَمَا أَشْبَهَ هَذِهِ الْأَمْثِلَة = فَكُلّ هَذِهِ الشُّكُوك لَا تَأْثِير لَهَا ، وَالْأَصْل عَدَم هَذَا الْحَادِث" انتهى .
ومعنى ذلك: أن من شك في عبادة من العبادات: هل فعلها، أم لا؛ فالأصل أن ذمته مشغولة بالمطالبة بأداء هذه الصلاة التي شك فيها، ولا تبرأ ذمته من عهدة الطلب، إلا بأن "يصليها".
قال ابن نجيم، في فروع القاعدة السابقة: " قاعدة: من شك هل فعل شيئا، أو لا؛ فالأصل أنه لم يفعل". انتهى، من "الأشباه والنظائر" (64).
وعلى ذلك؛ فمن شك هل صلى، أم لا؟ فلا بد له من "العلم" بوقوع هذه الصلاة، فيطرح هذا الشك، ويصلي، لتبرأ ذمته بيقين، ويسقط عنه الطلب.
قال القاضي أبو يعلى، رحمه الله: " لو شك هل صلى أم لا؟ فإنه يبني على اليقين، وهو أن يأخذ بأنه لم يصلِّ، كذلك إذا شك هل صلى الركعة الرابعة؟ لزمه فعلها، ولا فرق بينهما، وقد حرر من هذا دليل، وهو: أن كل ما لو شك في أصله بنى على اليقين، فإذا شك في عددٍ، بنى على اليقين". انتهى، من "التعليق الكبير" (1/383).
وقال ابن بطال، رحمه الله: " والتحرى رجوع إلى اليقين؛ ألا ترى أنه لو شك هل صلى أم لا رجع إلى يقينه وصلى". انتهى، من "شرح صحيح البخاري" (2/61).
وقال ابن قدامة، رحمه الله: " ومن صلى الفجر، ثم شك، هل طلع الفجر أو لا؟ أو شك في صلاة صلاها، هل فعلها في وقتها أو قبله؛ لزمته إعادتها.
وله أن يؤم في الإعادة من لم يصل.
وقال أصحابنا: يخرج على الروايتين في إمامة المتنفل مفترضا.
ولنا: أن الأصل بقاء الصلاة في ذمته، ووجوب فعلها، فيصح أن يؤم فيها مفترضا، كما لو شك: هل صلى أم لا". انتهى، من "المغني" (3/69).
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
إذا شكَّ المصلي في أنه صلَّى أم لم يصلِّ، فماذا يفعل، سواء كان الشك في الوقت أو في خارجه؟
فأجاب :
"إذا شك المسلمُ في أي صلاةٍ من الصلوات المفروضة: هل أدَّاها أم لا؟ فإن الواجب عليه أن يُبادر بأدائها؛ لأن الأصل بقاء الواجب، فعليه أن يُبادر بها؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (مَن نام عن الصلاة أو نسيها فليُصلها إذا ذكرها، لا كفارةَ لها إلا ذلك) .
والواجب على المسلم أن يهتم بالصلاة كثيرًا، وأن يحرص على أدائها في الجماعة، وأن لا يتشاغل عنها بما يُنسيه إياها؛ لأنها عمود الإسلام، وأهم الفرائض بعد الشهادتين، وقد قال الله سبحانه: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ) [البقرة: 238]، وقال تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ) [البقرة: 43]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله) ، وقال عليه الصلاة والسلام: (بُنِيَ الإسلامُ على خمسٍ: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت) .
والآيات والأحاديث في تعظيم شأن الصلاة ووجوب المحافظة عليها كثيرة" انتهى.
والله أعلم .
تعليق