الحمد لله.
من المتفق عليه أن أذكار الركوع والسجود تكون سرا لا جهرا.
جاء في"الموسوعة الفقهية الكويتية" (4 / 172): " الإسرار بالتسبيح سنة؛ اتفاقا " انتهى.
وجاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" – أيضا - (4 / 169): " أما في الاصطلاح فيأتي (الإسرار) بالمعاني التالية:
أن يُسمع نفسه دون غيره، وأدناه ما كان بحركة اللسان، وهذا المعنى يستعمله الفقهاء في أقوال الصلاة والأذكار " انتهى.
وأما ما رواه الإمام مسلم (486) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " فَقَدْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةً مِنَ الْفِرَاشِ، فَالْتَمَسْتُهُ فَوَقَعَتْ يَدِي عَلَى بَطْنِ قَدَمَيْهِ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ وَهُمَا مَنْصُوبَتَانِ، وَهُوَ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سَخَطِكَ، وَبِمُعَافَاتِكَ مِنْ عُقُوبَتِكَ. وَأَعُوذُ بِكَ مِنْكَ، لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ .
فهذا محمول على جواز الجهر، بما يشرع فيه الإسرار: أحيانا.
فاستحباب الإسرار بأدعية الصلاة وأذكارها، في عموم الأحوال؛ لا يمنع من الجهر بشيء من ذلك أحيانا؛ لا سيما إذا دعت إليه الحاجة من تعليم، أو فرط مناجاة، أو نحو ذلك.
وقد روى البخاري (762)، ومسلم (451) عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي قَتَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ مِنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَةٍ سُورَةٍ، وَيُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا".
قال النووي رحمه الله تعالى:
" وقوله: ( وكان يُسْمِعُنَا الْآيَةَ أَحْيَانًا ) هذا محمول على أنه أراد به بيان جواز الجهر في القراءة السرية، وأن الإسرار ليس بشرط لصحة الصلاة، بل هو سنة. ويحتمل أن الجهر بالآية كان يحصل بسبق اللسان للاستغراق في التدبر. والله أعلم " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (4 / 175).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " وقد تنازعوا في الجهر والمخافتة في الصلوات هل هما واجبانِ تَبطُل الصلاةُ بتعمُّدِ مخالفتهما أم هما سنة؟ وفي ذلك خلافٌ مشهورٌ في مذهب مالك وأحمد وغيرهما، والمشهور أنهما سنة، وكذلك دعاء الاستفتاح سنة. ومن السنن الراتبة المتفقِ عليها: المخافتةُ بالذكر والدعاء في الركوع والسجود، والاعتدال فيهما وفي التشهدين، ومخافتة المأموم بقراءته ودعائه، وأما المنفرد فقد تنازعوا هل الأفضل له المخافتة بالقراءة أو الجهر بها". انتهى، من "جامع المسائل" (6/283).
والجهر في مثل حديث عائشة المذكور، هو جهر خفيف، بحيث يسمعه من يكون في المكان. ويعبر عن فقهاء الشافعية عن مثل هذه : بالحال المتوسطة بين الإسرار والجهر.
قال الشيخ زكريا الأنصاري، رحمه الله: " وحد الجهر أن يسمع من يليه، والإسرار أن يسمع نفسه حيث لا مانع كما مر، والتوسط بينهما قال بعضهم يعرف بالمقايسة بهما كما أشار إليه قوله تعالى ولا تجهر بصلاتك [الإسراء: 110] الآية قال الزركشي، والأحسن في تفسيره ما قاله بعض الأشياخ أن يجهر تارة ويسر أخرى كما ورد في فعله صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل". انتهى، من "أسنى المطالب" (1/156).
وهذا هو الظاهر والمفهوم من معرفة الحال في مناجاة العبد ربه في هذه الخلوات، وفي وقت السحر، لا سيما حال النبي صلى الله عليه وسلم، أخشى الناس لربه، وأرجاهم لما عنده؛ فربما اشتدت مناجاته ربه، وإلحاحه على الله في الدعاء، ومن شأن ذلك ألا يكون الصوت معه مبالغا في الخفض، بل يكون بحيث يسمعه القريب، وربما المتوسط أيضا؛ لا سيما في هدأة الصوت، وسكون الليل.
قال شيخ الإسلام " وأما [الجهر] لِعارضٍ فقد ثبت في الصحيح أن عمر كان يجهر بدعاء الاستفتاح مراتٍ كثيرةٍ، فكان يقول: الله أكبر، "سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إله غيرك". وكان طائفة من الصحابة يجهرون بالبسملة، كابن الزبير وغيره. وقد رُوِيَ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يجهر بها بمكة، ورُوِيَ في جهرِه بها بالمدينة أحاديثُ ضعيفةٌ ضعَّفها أهل الحديث. وثبتَ في الصحيح عن أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُسمِعُهم الآية أحيانًا من صلاةِ الظهر والعصر، وثبت في صحيح البخاري أن ابن عباس جهرَ بالقراءة على الجنازة بفاتحة الكتاب وقال: لِتَعلموا أنها السنة.
فمثلُ هذا الجهر إذا كان لتعليم المأمومين يَحسُنُ، ولو كان لمصلحةٍ أخرى فهو حسنٌ أيضًا، فإنه قد يكون الجهرُ أعونَ على القراءة، كما قال عمر: أُوقِظُ الوسنانَ وأُرضِي الرحمن وأَطرُد الشيطان. فقد يكون الجهر أبلغ في تعليمه، وقد يكون عليه في المخافتة مشقة، ومهما استجلبَ به الخشوع والبكاء من خشية الله وكان أنفع للمأمومين جاز، ولا يداوم على ذلك في [كل] وقت، كما يداوم على قراءة الفاتحة وعلى الركوع.
ومما يدلُّ على جواز الجهر بالاستفتاح وغيره أحيانًا ما في الصحيح عن أنس أن رجلاً جاء إلى الصلاة وقد حَفَزَه النَّفس، فقال: الله أكبر، الحمد لله حمدًا كثيرًا طبياً مباركًا فيه مُباركًا عليه كما يُحبُّ ربُّنا ويَرضى، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاتَه قال: "أيُّكم المتكلِّمُ بالكلمات؟ لقد رأيتُ اثْنَي عشرَ ملكًا يبتدرونَها أيُّهم يَرفعُها". فهذا مأمومٌ جهرَ بهذا الذكر بعد التكبير، وقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم عليه بذلك، وهذا دليلٌ على جواز الجهر أحيانًا في المواضع التي يُخافَتُ فيها، وأن الرجل إذا ذكر الله في الصلاة بما هو من جنسها كان حسنًا وإن لم يُؤمَر به. وهذا موافقٌ لجهر عمر بالاستفتاح ..."
ثم قال: " وكذلك حديث عائشة الذي في الصحيح أنه كان يُكثِر أن يقول في ركوعه وسجودِه: "سبحانك اللهم وبحمدك اللهمَّ اغفرْ لي" يَتَأَوَّلُ القرآن. وقولها في الصحيح: كان يقول في ركوعه وسجوده: "سُبُّوحٌ قدوسٌ ربّ الملائكة والروح". وأصرحُ من ذلك ما رواه مسلم عنها قالت: فَقدتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ليلةً على الفِراش، فالتمستُه، فوقَعتْ يدي على بطنِ قدميه وهو في السجود وهما منصوبتانِ، وهو يقول: "اللهمَّ إني أعوذ برِضاكَ من سَخَطِكَ" إلى آخره. فهذا صريحٌ في أنه جَهَرَ بهذا الدعاء في سجودِه، حتى سمعت ذلك عائشة " انتهى، من "جامع المسائل" (6/284-288).
والأمر الثاني: أن الاسرار لا بد له من حركة اللسان وحصول النطق بالحرف، وعادةً يسمع الإنسان نفسه.
جاء في "الموسوعة الفقهية الكويتية" (4 / 169): " أما في الاصطلاح فيأتي (الإسرار) بالمعاني التالية:
أن يُسمع نفسه دون غيره، وأدناه ما كان بحركة اللسان، وهذا المعنى يستعمله الفقهاء في أقوال الصلاة والأذكار " انتهى.
فالإسرار على هذا الوجه: قد يسمعه من يقترب من المصلي اقترابا شديدا.
والظاهر – على هذا القول - : أن عائشة رضي الله عنها لم تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم حتى اقتربت منه اقترابا شديدا، ولمست رجله، وقبل ذلك لم تكن تعلم أين هو، وما يقول، ولذا فتشت عنه بيدها في ظلام الليل.
والله أعلم.
تعليق