الحمد لله.
أولا :
اختلف العلماء في جواز أخذ الأجرة على العبادات، ومنها: الإمامة.
فذهب بعضهم إلى تحريم ذلك.
قال ابن قدامة رحمه الله في "المغني" (2/9): "وَرُوِيَ عَنْهُ [أي عن الإمام أحمد] أَنَّهُ قَالَ : "لَا تُصَلِّ خَلْفَ مَنْ يُشَارِطُ، وَلَا بَأْسَ أَنْ يَدْفَعُوا إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ " انتهى.
والقول بأنه لا يصح الاستئجار على الإمامة، ولو في نافلة كالتراويح: هو مذهب الشافعية. وعللوه بأن الإمام يصلي لنفسه، ومنفعة عمله المستأجر عليه، إنما تعود إليه، لا إلى المستأجِر.
قال الشيخ زكريا الأنصاري، رحمه الله في "أسنى المطالب" (2/ 410): «(ولو استأجر) شخص آخر (للإمامة ولو لنافلة كالتراويح لم يصح) لأن فائدتها من تحصيل فضيلة الجماعة لا تحصل للمستأجر بل للأجير". وينظر أيضا: "تحفة المحتاج" لابن حجر الهيتمي (6/155).
وذهب جماعة من العلماء إلى جواز أخذ الأجرة على الإمامة، لمن كان محتاجا، أما الغني فلا يجوز له ذلك.
وهو مذهب المتأخرين من الحنفية، وبعض الحنابلة، وهو المعمول به عند المالكية.
واختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله .
قال ابنُ عَابدين الحنفي رحمه الله : "على أنَّ المُفتَى به : مذهب المتأخِّرين، من جواز الاستئجار على تعليم القرآن، والإمامة، والأذان؛ للضرورة" انتهى من "حاشية ابن عابدين" (1/562).
وقال ابن نجيم الحنفي رحمه الله:
"على المختار للفتوى في زماننا: فيجوز أخذ الأجر للإمام والمؤذن والمعلم والمفتي، كما صرحوا به في كتاب الإجارات" انتهى من "البحر الرائق" (1/268).
وقال الملا علي القاري، رحمه الله - عند قول صاحب "النُّقاية": " ولا تَصِحُّ للعِبَادَاتِ: كالأَذَانِ والإِمَامَةِ وتَعْلِيم القُرْآنِ) -:
" (ويُفْتَى اليَّوْمَ بِصِحَّتِهَا): أَي الإِجارة على الأَذَان والإِمامة وتعليم القرآن، لأن المتقدِّمِينَ إِنَّما مَنَعُوا منها لرغبة الناس في زمانهم في فِعْلها احتساباً، وفي مجازاة فاعلها بالإِحْسان بلا شَرْط.
وفي هذا الزمان: قد زال المعنيان، ففي عدم صحة الإِجارة عليها تَضْيِيعُهَا، ولا يَبْعُد أَنْ يختلف الحكم باختلاف الأَزْمِنة، أَلا ترى أَنَّ النِّسَاءُ كُنَّ يَخْرجن إِلى الجماعات في زمنه عليه الصلاة والسلام وأَبي بكر حتى مَنَعَهن عُمَرُ عن ذلك.
وفي: «الهداية»: وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم القرآن اليوم، وعليه الفتوى.
وفي «النهاية»: يُفْتى بجواز الاستئجار على تعليم الفقه أَيضاً في زماننا.
وفي «المجمع»: وقيل: يُفْتَى بجوازِهِ، أَي الاستئجار على التعليم والإِمامة والفقه.
وفي «الذخيرة» و«الروضة»: عن بعض أَصحابنا: يجوز في زماننا للإِمام، والمؤذن، والمعلم أَخْذُ الأُجرة". انتهى، من "فتح باب العناية بشرح النقاية" (2/ 436).
وقال ابن عبد البر المالكي رحمه الله في "الكافي" (2/155):
"واختلف في جواز إجارة الإمام ليؤم الناس في الفريضة والنافلة فكرهه مالك ... وأجازه بعض أصحابه وطائفة من أهل المدينة، وهو المعمول به" انتهى.
بل نُقل عن الإمام أحمد رحمه الله رواية: أخرى أنه يجوز أخذ الأجرة للفقير والغني.
قال المرداوي الحنبلي رحمه الله: "ونص الإمام أحمد على أنه يصح [يعني : أخذ الأجرة على العبادات، ومنها الإمامة]، كأخذه بلا شرط ...
وقيل : يصح للحاجة ، ذكره الشيخ تقي الدين ابن تيمية واختاره" انتهى من "الإنصاف" (14/378).
وما أشار إليه المرداوي، من اختيار شيخ الإسلام، نصه – كما في "مجموع الفتاوى" (30/207) -:
"ومَن فرَّق بين المحتاج وغيره- وهو أقربُ- قال: المحتاجُ إذا اكتسَب بها، أمكنه أن ينويَ عملها لله، ويأخذ الأجرة؛ ليستعينَ بها على العبادة; فإنَّ الكسب على العيال واجبٌ أيضًا، فيؤدِّي الواجبات بهذا، بخلاف الغنيِّ؛ لأنَّه لا يحتاج إلى الكسب، فلا حاجةَ تدعوه أن يعملَها لغير الله؛ بل إذا كان الله قد أغناه، وهذا فرضٌ على الكفايةِ: كان هو مخاطبًا به، وإذا لم يَقُمْ [أي: الفرضُ] إلَّا به [أي: بهذا الغني]، كان ذلك واجبًا عليه عينًا، والله أعلم" انتهى من "مجموع الفتاوى" (30/207).
وسئل الشيخ عبد العزيز بن باز، رحمه الله: " ما حكم تحديد الإمام أجرة لصلاته بالناس، خصوصًا إذا كان يذهب لمناطق بعيدة ليُصلي بهم التراويح؟
فأجاب: " التحديد ما ينبغي، وقد كرهه جمعٌ من السلف، فإذا ساعدوه بشيءٍ غير محدد فلا حرج في ذلك.
أما الصلاة فصحيحة لا بأس بها -إن شاء الله- ، ولو حدَّدوا له مساعدةً؛ لأن الحاجة قد تدعو إلى ذلك.
لكن ينبغي ألا يفعل ذلك، وأن تكون المساعدة بدون مشارطة، هذا هو الأفضل والأحوط كما قاله جمعٌ من السلف رحمة الله عليهم." انتهى.
وعلى هذا ؛ فلا حرج على هذا الإمام أن يأخذ أجرًا من الشركة على إمامته في صلاة التراويح ، إذا كان محتاجا لذلك .
وما رجحه شيخ الإسلام من الترخيص فيها للمحتاج: ظاهر، وبهذا تقوم مصلحة الإمامة، وإلا، تكافها الناس، ولم ينضبط أمر المساجد، وعليه عمل الناس أيضا.
وقد خرج بعض فقهاء الشافعية جواز ما جرت به العادة من إعطاء الأئمة أرزاقا لأجل إمامتهم؛ خرجوها على أنها من باب "الجعالة"، وهي أوسع من "الإجارة"؛ وفي هذا خروج من إشكال أن نفع الإجارة لا يعود إلى المستأجِر؛ فلا تصح الإجارة عليها. بل نقل عن الغزالي التصريح بجواز الإجارة على الإمامة.
قال الشيخ عبد الرحمن الشربيني، رحمه الله، في حاشيته على الغرر البهية في شرح البهجة الوردية: (3/ 320): «(قوله: والإمامة) قال م ر في شرح المنهاج: وما جرت به العادة من جعل جامِكِيّة على ذلك: فليس من باب الإجارة، وإنما هو من باب الإرزاق، والإحسان، والمسامحة، بخلاف الإجارة، فإنها من باب المعاوضة. اهـ. وقال ح ل: إن ذلك جعالة لا إجارة. اهـ.
ولعل الفرق: أن الإجارة تُملك بها المنفعة، فيلزم أن تقع للمستأجِر، بخلاف الجعالة. فتأمل هذا.
ونقل الشيخ عميرة على المحلي، عن الغزالي: أنه يصح الاستئجار على الإمامة، وله الأجرة في مقابلة إتعاب نفسه بالحضور إلى موضع معين، والقيام بها في وقت معين". انتهى.
و(الجامكية): هي الراتب الذي يتقاضاه الموظف. انظر: "معجم تيمور الكبير" (3/47)، وأيضا: " معجم المصطلحات المالية والاقتصادية في لغة الفقهاء"، د. نزيه حماد (161-162).
وما قاله الغزالي: ظاهر، متجه.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، عن رجل أوقف وقفا على مدرسة وشرط فيها أن ريع الوقف للعمارة؛ والثلثين يكون للفقهاء؛ وللمدرسة؛ وأرباب الوظائف. وشرط أن الناظر يرى بالمصلحة؛ والحال جاريا كذلك مدة ثلاثين سنة؛ وإن حصر المدرسة وملء الصهريج يكون من جامكية الفقهاء؛ لأن لهم غيبة؛ وأماكن غيرها؛ وأن معلوم الإمام في كل شهر من الدراهم عشرون درهما؛ وكذلك المؤذن؛ فطلب الفقهاء بعد هذه المسألة أرباب الوظائف أن يشاركوهم فيما يؤخذ من جوامكهم؛ لأجل الحصر؛ وملء الصهريج؛ وأن أرباب الوظائف قائمون بهذه الوظيفة، ولو لم يكن لهم غيرها: هل يجب للناظر موافقة الفقهاء على ما طلبوه، ونقص هؤلاء المساكين عن معلومهم اليسير؟ أم لا؟
فأجاب:
، إذا رأى الناظر تقديم أرباب الوظائف الذين يأخذون على عمل معلوم - كالإمام؛ والمؤذن - فقد أصاب في ذلك؛ إذا كان الذي يأخذونه لا يزيد على جعل مثلهم في العادة؛ كما أنه يجب أن يقدم الجابي والحامل والصانع والبناء، ونحوهم ممن يأخذ على عمل يعمله في تحصيل المال؛ أو عمارة المكان؛ يقدمون بأخذ الأجرة. والإمامة والأذان شعائر لا يمكن إبطالها؛ ولا تنقيصها بحال؛ فالجاعل جعل مثل ذلك لأصحابها، يقدم على ما يأخذه الفقهاء؛ وهذا بخلاف المدرس والمفيد والفقهاء؛ فإنهم من جنس واحد ..." انتهى، من "مجموع الفتاوى" (31/22).
ثانيا :
أما ما يجمعه العمال له في نهاية رمضان ، فهذا لا إشكال في جوازه ، لأنه أخذه من غير مشارطة ، بل هو تبرع منهم للإمام .
وقد تقدم قول الإمام أحمد رحمه الله : "لا بأس أن يدفعوا إليه من غير شرط" .
وقال ابن نجيم الحنفي رحمه الله :
" قالوا : فإن لم يشارطهم على شيء ، لكن عرفوا حاجته فجمعوا له في كل وقت شيئا : كان حسنا ، ويطيب له " انتهى من "البحر الرائق" (1/268) .
وينظر جواب السؤال (294681 )
والله أعلم .
تعليق