الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى: ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) الطارق/4.
ذهب بعض المفسرين إلى أن: ( حَافِظٌ ) في هذه الآية المقصود به الله تعالى، فهو الحافظ على الحقيقة على الناس أعمالهم والحافظ لهم من الآفات والضرر.
وهذا كقوله تعالى: ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ) يوسف/64.
قال القرطبي رحمه الله تعالى:
” وقيل: الحافظ هو الله سبحانه، فلولا حفظه لها لم تبق. وقيل: الحافظ عليه عقله يرشده إلى مصالحه، ويكفه عن مضاره.
قلت: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو الله عز وجل، قال الله عز وجل: ( فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا )، وقال: ( قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ )، وما كان مثله ” انتهى. “تفسير القرطبي” (22/205).
وكقوله تعالى: ( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ) النساء/1.
وكقوله تعالى:
( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ) الرعد/33.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى:
” أي: حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة، يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر، ولا يخفى عليه خافية ” انتهى. “تفسير ابن كثير” (4/583).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
” فإنه سبحانه يقول: ( أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ )، وهذا استفهام تقرير يتضمن إقامة الحجة عليهم ونفي كل معبود مع الله، الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت، بعلمه وقدرته وجزائه في الدنيا والآخرة، فهو رقيب عليها، حافظ لأعمالها مجاز لها بما كسبت من خير وشر ” انتهى. “مجموع الفتاوى” (15/196).
وعلى هذا القول، فلا إشكال في ورود (حَافِظٌ) بصيغة المفرد.
ثانيا:
ذهب أكثر المفسرين إلى أن المقصود بـ (حَافِظٌ) الملائكة.
فمن أهل العلم من رأى أن المقصود به الملائكة التي تحصي على بني آدم أعمالهم من خير وشر.
قال الطبري:
” فتأويل الكلام إذن: إن كلّ نفس لعليها حافظ من ربها، يحفظ عملها، ويُحصي عليها ما تكسب من خير أو شرّ.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل ” انتهى. “تفسير الطبري” (24 / 291).
وقال البغوي رحمه الله تعالى:
” وتأويل الآية: كل نفس عليها حافظ من ربها، يحفظ عملها، ويحصي عليها ما تكتسب من خير وشر ” انتهى. “معالم التنزيل” (8 / 394).
وهذا قول جمهور المفسرين.
قال ابن جزي رحمه الله تعالى:
” ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ )، هذا جواب القسم، ومعناه عند الجمهور: أن كل نفس من بني آدم عليها حافظ يكتب أعمالها، يعني الملائكة الحفظة ” انتهى. “التسهيل” (4 / 658).
واسـتأنسوا بسياق الآيات.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
” أنّه – سبحانه – نبّه بقوله: ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ )، على أنّه قد وكّل به من يحفظ عليه عمله ويحصيه، فلا يضيع منه شيء. ثمّ نبّه بقوله عز وجل: ( إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ ) على بعثه لجزائه على العمل الذي حُفِظ وأُحْصِي عليه.
فذكر شأن مبدأ عمله ونهايتِه، فمبدؤه محفوظ عليه، ونهايته الجزاء عليه، ونبّه على هذا بقوله: ( يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ ) أي: تختبر السرائر … ” انتهى. “التبيان في أيمان القرآن” (ص167).
وعلى هذا القول فالحافظ هنا كالحافظين في قوله تعالى: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ، كِرَامًا كَاتِبِينَ ، يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ) الانفطار/10 – 12.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
” وقوله: ( وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ ). يقول: وإن عليكم رقباء حافظين يحفظون أعمالكم، ويحصونها عليكم.
( كِرَامًا كَاتِبِينَ ). يقول: كراما على اللهِ، ( كَاتِبِينَ ): يكتبون أعمالكم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل…
وقوله: ( يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ). يقول: يعلم هؤلاء الحافظون ما تفعلون من خير أو شرّ، يحصون ذلك عليكم. ” انتهى. “تفسير الطبري” (24 / 181 – 182).
والمعروف عند أهل العلم أن الكتبة اثنان، كما يشير إلى هذا قول الله تعالى:
( وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ، إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) ق/16 – 18.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
” وقد قال الله تعالى: ( إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ ، مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ )، وقد أجمع السّلف الصّالح على أنّ الذي عن يمينه يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات، وقد رُوي ذلك مرفوعا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف. وفي “الصحيح” عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ( إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي، فَإِنَّهُ يُنَاجِي رَبَّهُ وَالْمَلَكُ عَنْ يَمِينِهِ ). ورُوي من حديث حذيفة مرفوعا: ( إِنَّ عَنْ يَمِينِهِ كَاتِبَ الْحَسَنَاتِ ) ” انتهى. “جامع العلوم والحكم” (1/336).
وقيل الحافظ: هم الملائكة الموكلون بحفظ العبد ودفع ما يضره في دنياه.
واختاره ابن كثير، حيث قال رحمه الله تعالى:
” وقوله تعالى: ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ) أي: كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات، كما قال تعالى: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ) ” انتهى. “تفسير ابن كثير” (7/537).
قال الواحدي رحمه الله تعالى:
” قوله تعالى: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ ) الآية، المعقبات: المتناوبات التي يخلف كل واحد منها صاحبه، ويكون بدل منه، وهم الملائكة الحفظة هاهنا، في قول عامة المفسرين وأهل التأويل…
قال ابن عباس: وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد، وقتادة وغيرهم: المعقبات: الملائكة الحفظة …
والمعنى: لله ملائكة حفظة تتعاقب في النزول إلى الأرض من بين يدي الإنسان ومن خلفه ” انتهى. “التفسير البسيط” (12/ 307 – 309).
وهذا يشير إلى أنه يقوم على العبد أكثر من ملك لحفظه في أمر دنياه.
قال ابن رجب رحمه الله تعالى:
” وحفظ الله لعبده يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، قال الله عز وجل: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ).
قال ابن عباس: ( هم الملائكةُ يَحْفَظُونَه بأمرِ الله، فإذا جاء القدَرُ خَلَّوا عنه ).
وقال عليّ رضي الله عنه: ( إن مع كلِّ رجلٍ مَلَكين يَحْفَظَانه مما لم يُقَدَّرْ، فإذا جاء القدَرُ خَلَّيا بينَه وبينَه، وإن الأجلَ جُنَّةٌ حصينةٌ ).
وقال مجاهد: ( ما مِنْ عبدٍ إلّا له ملك يحفظه في نومه ويقظته من الجنّ والإِنس والهوامّ، فما من شيء يأتيه إلا قال: وراءك، إلا شيئا أذن الله فيه فيصيبه ) ” انتهى. “جامع العلوم والحكم” (1 / 465).
وذهب بعض أهل العلم إلى أن آية الطارق تشمل النوعين من الملائكة الكتبة والحفظة.
جاء في “تتمة أضواء البيان” (9 / 158):
” قوله تعالى: ( إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ ).
قيل: (حَافِظٌ) لأعماله يحصيها عليه، كما في قوله: ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ).
وقيل: (حَافِظٌ) أي: حارس، كقوله تعالى: ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ )، والسياق يشهد للمعنيين معا؛ لأن قوله تعالى بعده: ( فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ ، خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ ، يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ )، يدل على أنه في تلك المراحل في حفظ، فهو أولا: ( فِي قَرَارٍ مَكِينٍ ).
وفي الحديث: ( إِنَّ اللهَ وَكَّلَ بِالرَّحِمِ مَلَكًا ) الحديث.
وبعد بلوغه سن التكليف يجري عليه القلم، فيحفظ عليه عمله، فلا مانع من إرادة المعنيين معا، وليس هذا من حمل المشترك على معنييه؛ لأن كلا من المعنيين له متعلق يختص بزمن خلاف الآخر ” انتهى.
وعلى هذه التفاسير يكون لفظ (حَافِظٌ) ورد بصيغة المفرد، لكن لوحظ فيه معنى الجنس، وليس حقيقة الإفراد، وهذا يرد في لغة العرب، وبصيغة المفرد تتناسب نهايات الآي.
كما قال ابن سيده رحمه الله تعالى:
” وفي التّنزيل: ( وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً ) أَي أعضادا. وإِنّما افرد لتعتدل رءوس الآي بالإِفراد ” انتهى. “المحكم” (1/390).
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
” … سؤال معروف وهو أن يقال: ما وجه الإِفراد في قوله: ( نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا )، مع أن المعنى نخرجكم أطفالا؟
وللعلماء عن هذا السؤال أجوبة.
… الذي يظهر لي من استقراء اللغة العربية التي نزل بها القرآن، هو أن من أساليبها: أن المفرد إذا كان اسم جنس، يكثر إطلاقه مرادا به الجمع، مع تنكيره، كما في هذه الآية، وتعريفه بالألف واللام، وبالإِضافة، فمن أمثلته في القرآن مع التنكير قوله تعالى: ( إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ )، أي: وأنهار، بدليل قوله تعالى: ( فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ ) الآية، وقوله: ( وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا )، أي: أئمة … وقوله تعالى: ( لَا نُفَرِّقُ بَينَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ) أي: بينهم، وقوله تعالى: ( وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا )، أي: رفقاء … ” انتهى. “أضواء البيان” (5 / 31).
قال برهان الدين البقاعي رحمه الله تعالى:
” (حَافِظٌ) أي رقيب عتيد لا يفارقها، والمراد به الجنس من الملائكة، فبعضهم لحفظها من الآفات، وبعضهم لحفظها من الوساوس، وبعضهم لحفظ أعمالها وإحصائها بالكتابة … ” انتهى. “نظم الدرر” (21 / 373).
والله أعلم.
تعليق