الحمد لله.
لا تعارض بين كون عيسى عليه السلام في السماء الثانية كما في حديث المعراج، وبين قوله تعالى (ورافعك إليّ).
وذلك أن النصوص يفسر بعضها بعضاً، وقد جاء في الكتاب العزيز في مواطن عدة رجوع الخلق إليه، وصعود الأرواح إلى الله بعد موتها. كقوله تعالى:
(أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ولم يفهم أحد بمقتضى اللغة العربية أنّ الناس ستكون عند الله فوق العرش.
فـ (إلى) التي للغاية لا يلزم منها المخالطة والاشتراك في المكان، فتقول قدم فلان إلينا، وهو في البلد في سكن غير سكنك ومنزل غير منزلك، فمن قدم إلى جهتك أو إلى بلدك فقد قدم إليك.
فمعنى (رافعك إليّ) :المراد إلى السماء التي هي جهة العلو، التي فيها الرحمن جل جلالة.
قال الطبري رحمه الله: "وعن الحسن في قول الله عز وجل: "يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي"، الآية، قال: رفعه الله إليه، فهو عنده في السماء". "تفسر الطبري" (6/ 457). وراه عنه ابن أبي حاتم أيضا في "تفسيره" (2/661).
وقال أبو الحسن الواحدي: "وقوله تعالى: وَرَافِعُكَ إِلَيَّ أي: إلى سمائي، ومحل كرامتي. فجعل ذلك رَفْعًا إليه؛ للتفخيم والتعظيم.
ومثله، قوله: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي [الصافات: 99]، وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من العراق إلى الشام، والتقدير: إلى أمر ربي، لأنه أمره بذلك المكان» انتهى، من التفسير البسيط (5/ 306).
ولأجل ما قررناه، استدل الأئمة بهذه الآية على علو الله عز وجل في سمائه، على عرشه، فوق خلائقه جميعا.
قال أبو الحسن الأشعري، في تقرير علو الله عز وجل، واستوائه على عرشه:
" وقال عز وجل لعيسى ابن مريم عليه السلام: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ، وقال: وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ . وأجمعت الأمة على أن الله عز وجل رفع عيسى إلى السماء". انتهى، من "الإبانة عن أصول الديانة" (ص424 ت العصيمي).
والحاصل:
أن رفع عيسى عليه السلام، إنما كان إلى "السماء" عموما، ولم يصرح القرآن إلى أي سماء من سمواته، رفعه الله إليه. ولا إشكال في ذلك، كما أن الله جل ذكره، أخبر عن ملائكته أنهم: (عنده)، قال تعالى: ( وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ ) الأنبياء/19-20، وكذلك أخبر عن الشهداء: ( وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) آل عمران/169
ومع ذلك؛ فقد أخبر الله جل جلاله أنه فوق الخلائق جميعا. قال تعالى: ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) الأنعام/18.
وأخبر أنه فوق ملائكته. قال تعالى: ( وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ) النحل/49-50.
وبهذا يقر المؤمنون جميعا؛ لا يختلفون فيه.
وقد بينت السنة تحديد المكان الذي في السماء، كما في حديث المعراج.
(فأتينا السماء الثانية، قيل: من هذا، قال: جبريل، قيل: من مَعَكَ، قَالَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قيل: أرسل إليه، قال: نعم، قيل: مرحبا به ولنعم المجيء جاء، فأتيت على عيسى ويحيى فقالا: مرحبا بك من أخ ونبي) رواه البخاري (3035).
فهذا بيان لمكان عيسى عليه السلام في السماء، وتفصيل لما أجمل ذكره في القرآن الكريم؛ لا أنه معارض له.
قال الشيخ ابن جبرين: المراد بقوله (رافعك اليّ): أي الى الجهة التي فيها الله، وهي جهة العلو .
والله أعلم
تعليق