الحمد لله.
أولا:
إذا تكلم المتكلم قام به الكلام، واتصف به، ثم إن هذا الكلام لا ينتقل إلى غيره، ولا يحل في غيره، بل يسمعه الغير، أو يردده الغير، واعتبر هذا بنفسك، فإنك إذا تكلمت، لم ينتقل كلامك إلى غيرك، ولا يبحث عن كلامك أين ذهب!
وإذا قيل: إن كلام الله في المصحف، أو إن فلانا يقرأ كلام الله، فلا يعني أن الكلام فارق ذاته تعالى، أو حل في المصحف.
وإنما حصل اللبس في هذه المسألة؛ لأن الكلام: وجوده العيني يتحد مع وجوده اللفظي، فالذي يبلّغ بلفظه كلامَ غيره، يبلغه بنفس المرتبة الوجودية التي حصلت في الأول.
وبيان هذا أن للشيء أربعة مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في الخط، وهذه المراتب الأربعة تتحقق منفصلة في الأعيان القائمة بنفسها، كالشمس مثلًا، فوجودها الخارجي شيء، ووجودها الذهني شيء، ووجودها اللساني شيء، ووجودها في الكتاب شيء.
أما الكلام فتتحد فيه المرتبتان اللفظية، والخارجية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وليس معنى قول السلف والأئمة: إنه منه خرج، ومنه بدأ؛ أنه فارق ذاته وحل بغيره، فإن كلام المخلوق إذا تكلم به لا يفارق ذاته ويحل بغيره، فكيف يكون كلام الله؟
قال تعالى: كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا؛ فقد أخبر أن الكلمة تخرج من أفواههم، ومع هذا فلم تفارق ذاتهم.
وأيضا: فالصفة لا تفارق الموصوف وتحل بغيره، لا صفة الخالق ولا صفة المخلوق.
والناس إذا سمعوا كلام النبي صلى الله عليه وسلم ثم بلغوه عنه، كان الكلام الذي بلغوه كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد بلغوه بحركاتهم وأصواتهم؛ فالقرآن أولى بذلك، فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ" انتهى من "مجموع الفتاوى" (12/517).
وقال ابن القيم رحمه الله: "وتحقيق ذلك: أن الشيء له أربع مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان، ومرتبة في اللسان، ومرتبة في الخط، فالمرتبة الأولى وجوده العيني، والثانية وجوده الذهني، والثالثة وجوده اللفظي، والرابعة وجوده الرسمي.
وهذه المراتب الأربعة تظهر في الأعيان القائمة بنفسها، كالشمس مثلا، وفي أكثر الأعراض أيضا، كالألوان وغيرها.
ويعسر تمييزه في بعضها، كالعلم والكلام، أما العلم فلا يكاد يحصل الفرق بين مرتبته في الخارج ومرتبته في الذهن، بل وجوده الخارجي مماثل لوجوده الذهني.
وأما الكلام: فإن وجوده الخارجي ما قام باللسان، ووجوده الذهني ما قام بالقلب، ووجوده الرسمي ما أظهر الرسم، فأما وجوده اللفظي فقد اتحدت فيه المرتبتان الخارجية واللفظية" انتهى من "مختصر الصواعق المرسلة"، ص508
ونقل الذهبي رحمه الله كلام محمد بن أسلم الطوسي رحمه الله: "القرآن كلام الله غير مخلوق، أينما تلي وحيثما كتب، لا يتغير ولا يتحول ولا يتبدل".
وقال: "قلت: صدق والله؛ فإنك تنقل من المصحف مئة مصحف، وذاك الأول لا يتحول في نفسه، ولا يتغير، وتُلقِّنُ القرآن ألف نفس، وما في صدرك باق بهيئته لا يَنفصِل عنك، ولا يتغير.
وذاك: لأن المكتوب واحد، والكتابة تعددت، والذي في صدرك واحد، وما في صدور المقرئين هو عين ما في صدرك سواء، والمتلو وإن تعدد التالون به واحد، مع كونه سورا وآيات وأجزاء متعددة، وهو كلام الله ووحيه، وتنزيله وإنشاؤه، ليس هو بكلامنا أصلا.
نعم؛ وتكلُّمُنا به، وتلاوتُنا له، ونطقُنا به: من أفعالنا، وكذلك كتابتنا له، وأصواتنا به من أعمالنا، قال الله عزوجل: والله خلقكم وما تعملون.
فالقرآن المتلو، مع قطع النظر عن أعمالنا: كلام الله ليس بمخلوق، وهذا إنما يحصله الذهن، وأما في الخارج، فلا يتأتى وجود القرآن إلا من تالٍ، أو في مصحف، فإذا سمعه المؤمنون في الآخرة من رب العالمين، فالتلاوة إذ ذاك والمتلو: ليسا بمخلوقين" انتهى من العلو، ص192
والحاصل:
أن كلام المتكلم قائم بذاته، لا ينتقل عنه، ولا يحل في غيره، بل يسمعه غيره، ويعيد قوله وتلاوته.
ثانيا:
كلام الله تعالى غير مخلوق، ووصفه بأنه محدث، معناه أنه متجدد، متعلق بمشيئته، يتكلم الله جل جلاله به متى شاء، لا كما يقول المنحرفون: إنه تكلم في الأزل، ثم لا يتكلم بعد ذلك، وانظر قوله تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً البقرة/ 30، فهذا كلام الله قبل خلق آدم، في وجود الملائكة، وليس في الأزل.
ثم قال الله تعالى: قَالَ يَاآدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ البقرة/33، فهذا كلام بعد خلق آدم.
ثم قال الله: وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ البقرة/34، فهذا كلام بعد خلق آدم وتعليمه؛ فهو سبحانه يتلكم بما شاء، ويكلم من عباده من يشاء، كلاماً بعد كلام، كما يشاء ربنا، سبحانه، وجل شانه.
والله أعلم.
تعليق