الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى مخاطبا عبده ونبيه داوود عليه السلام:
( يَادَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ ) ص/26.
قال الشيخ السعدي، رحمه الله: " يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرْضِ تنفذ فيها القضايا الدينية والدنيوية، فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ أي: العدل، وهذا لا يتمكن منه، إلا بعلم بالواجب، وعلم بالواقع، وقدرة على تنفيذ الحق، وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فتميل مع أحد، لقرابة أو صداقة أو محبة، أو بغض للآخر فَيُضِلَّكَ الهوى عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ويخرجك عن الصراط المستقيم، إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ خصوصا المتعمدين منهم، لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ فلو ذكروه ووقع خوفه في قلوبهم، لم يميلوا مع الهوى الفاتن". انتهى، من "تفسير السعدي" (711).
وقال العلامة الشنقيطي، رحمه الله: " وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة : ( فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ): قد أمر نبيه داود فيه، بالحكم بين الناس بالحق ونهاه فيه عن اتباع الهوى، وأن اتباع الهوى، علة للضلال عن سبيل الله، لأن الفاء في قوله فيضلك عن سبيل الله تدل على العلية ...
ومعلوم أن نبي الله داود لا يحكم بغير الحق، ولا يتبع الهوى فيضله عن سبيل الله، ولكن الله تعالى، يأمر أنبياءه عليهم الصلاة والسلام، وينهاهم ليشرع لأممهم.
ولذلك أمر نبينا صلى الله عليه وسلم، بمثل ما أمر به داود، ونهاه أيضا عن مثل ذلك، في آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: (وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط) [15 \\ 42]، وقوله تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك) [15 \\ 49] وكقوله تعالى: (ولا تطع الكافرين والمنافقين) [33 \\ 48] وقوله تعالى: (ولا تطع منهم آثما أو كفورا) [76 \\ 24]، وقوله تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه) الآية [18 \\ 28]". انتهى، من "أضواء البيان" (6/339-340).
ثانيا:
كان مقتضى السياق: أن يقال: "فيضلك عن سبيلي"، أو عن "سبيلنا"؛ لكنه لم يضف "السبيل" إلى "الضمير" العائد على رب العالمين، وإنما أضافه إلى الاسم الصريح، وهو لفظ الجلالة: الله.
وهذا الأسلوب هو ما يعرف في علم البلاغة بـ"الإظهار في موضع الإضمار".
قال المؤيد بالله، يحي بن حمزة العلوي، رحمه الله: " واعلم أن هذا وإن كان معدودا من علم الإعراب لكن له تعلّق بعلم المعاني، وذلك أن الإفصاح بإظهاره في موضع الإضمار له موقع عظيم وفائدة جزلة، وهو تعظيم حال الأمر المظهر والعناية بحقه، ومثاله قوله تعالى: ( أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) [العنكبوت: 19]، ثم قال بعد ذلك: ( ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ) [العنكبوت: 20]؛ فانظرا إلى إظهاره اسمه جل جلاله في قوله: ( ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ )، وكان قياس الإعراب: ثم ينشئ النشأة الآخرة، لأنه قد تقدم ما يفسر هذا الضمير، وهو قوله: ( كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ ).
والفائدة في ذلك: هو المبالغة في الأمر المظهر، وإظهار الفخامة فيه، كقوله تعالى: ( الْقارِعَةُ * مَا الْقارِعَةُ )، وقوله: ( الْحَاقَّةُ * مَا الْحَاقَّةُ ). انتهى، من "الطراز الجامع لأسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز" (2/79).
ومثل هذا يقال في الآية المذكورة، إنها لما كانت على هذا النظم البديع، وأظهرت سبيل الله، ولم تضفها إلى المضمر: إيذانا بتعظيم سبيل الله، وترسيخ شأنها، وزيادة في تقبيح ما سواها، إذ بعُدت عن الله جل جلاله، وبعَّدت عنه.
قال العلامة أبو السعود، رحمه الله: " وإظهار سبيلِ الله، في موقع الإضمار: لزيادة التَّقريرِ، والإيذانِ بكمال شناعةِ الضَّلالِ عنه". انتهى، من " إرشاد العقل السليم" (7/223).
فالحاصل:
أن الله سبحانه وتعالى قال مخبرا عن سبيله بجملة ( سَبِيلِ اللَّهِ )، ولم ينسبه إلى ضمير المتكلم، وهذا أسلوب من أساليب العرب الجميلة البليغة، وبلغة العرب نزل القرآن الكريم، ولا شك أن لله تعالى حكمة في كل قول، قد تعلم وقد تجهل.
وقد قيل: إن نكتة ذلك الإظهار للمضاف إليه: تعظيم شأن سبيله سبحانه، والتشنيع على ما خالفها من السبل، أو أدى إلى خلافها من الأهواء.
والله أعلم.
تعليق