الحمد لله.
أولا:
ثبت في السنة التعوذ من فتنة القبر، كما روى البخاري (6377)، ومسلم (589) عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ النَّارِ وَعَذَابِ النَّارِ، وَفِتْنَةِ القَبْرِ وَعَذَابِ القَبْرِ، وَشَرِّ فِتْنَةِ الغِنَى وَشَرِّ فِتْنَةِ الفَقْرِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، اللَّهُمَّ اغْسِلْ قَلْبِي بِمَاءِ الثَّلْجِ وَالبَرَدِ، وَنَقِّ قَلْبِي مِنَ الخَطَايَا كَمَا نَقَّيْتَ الثَّوْبَ الأَبْيَضَ مِنَ الدَّنَسِ، وَبَاعِدْ بَيْنِي وَبَيْنَ خَطَايَايَ كَمَا بَاعَدْتَ بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الكَسَلِ، وَالمَأْثَمِ وَالمَغْرَمِ).
وروى مسلم (963) عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَلَّى عَلَى جَنَازَةٍ يَقُولُ: (اللهُمَّ، اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ، وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ، وَنَقِّهِ مِنَ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَقِهِ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَعَذَابَ النَّارِ) قَالَ عَوْفٌ: "فَتَمَنَّيْتُ أَنْ لَوْ كُنْتُ أَنَا الْمَيِّتَ، لِدُعَاءِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ الْمَيِّتِ".
ثانيا:
فتنة القبر: سؤال الملكين، أو سؤال الملكين وعذاب القبر.
روى البخاري (1373) عن أَسْمَاءَ بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، تَقُولُ: "قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطِيبًا فَذَكَرَ فِتْنَةَ القَبْرِ الَّتِي يَفْتَتِنُ فِيهَا المَرْءُ، فَلَمَّا ذَكَرَ ذَلِكَ ضَجَّ المُسْلِمُونَ ضَجَّةً".
وروى البخاري (86)، ومسلم (903) عَنْ أَسْمَاءَ، قَالَتْ: "فَحَمِدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: (مَا مِنْ شَيْءٍ لَمْ أَكُنْ أُرِيتُهُ إِلَّا رَأَيْتُهُ فِي مَقَامِي، حَتَّى الجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَأُوحِيَ إِلَيَّ: أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي قُبُورِكُمْ - مِثْلَ أَوْ - قَرِيبَ - لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - مِنْ فِتْنَةِ المَسِيحِ الدَّجَّالِ، يُقَالُ مَا عِلْمُكَ بِهَذَا الرَّجُلِ؟ فَأَمَّا المُؤْمِنُ أَوِ المُوقِنُ - لاَ أَدْرِي بِأَيِّهِمَا قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: هُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالهُدَى، فَأَجَبْنَا وَاتَّبَعْنَا، هُوَ مُحَمَّدٌ ثَلاَثًا، فَيُقَالُ: نَمْ صَالِحًا قَدْ عَلِمْنَا إِنْ كُنْتَ لَمُوقِنًا بِهِ. وَأَمَّا المُنَافِقُ أَوِ المُرْتَابُ - لاَ أَدْرِي أَيَّ ذَلِكَ قَالَتْ أَسْمَاءُ - فَيَقُولُ: لاَ أَدْرِي، سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ شَيْئًا فَقُلْتُهُ).
ولمسلم: (إِنِّي قَدْ رَأَيْتُكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ كَفِتْنَةِ الدَّجَّالِ).
قال النووي رحمه الله: "ومعنى (تفتنون) تمتحنون، فيقال: ما عِلْمُك بهذا الرجل"؟ فيقول المؤمن: هو رسول الله، ويقول المنافق: سمعت الناس يقولون شيئا فقلته، هكذا جاء مفسرا في الصحيح.
قوله صلى الله عليه وسلم: (كفتنة الدجال): أي فتنة شديدة جدا، وامتحانا هائلا، ولكن يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت" انتهى من "شرح مسلم" (6/ 206).
وقال في "البحر المحيط الثجاج" (13/ 117): " (تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ ") أي كما تُفتَن اليهود في قبورها، قال في "النهاية": يريد بالفتنة مسألة منكر ونكير، وهو من الفتنة، وهي الامتحان والاختبار. انتهى.
وقال القرطبيّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: المراد عذاب القبر، كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الآية [البروج: 10]، والفتنة تتصرّف على وجوه، وأصلها الاختبار. انتهى.
قال الجامع عفا اللَّه عنه: الأولى تفسير الفتنة هنا بما يعمّ سؤال الملكين، وعذاب القبر؛ لثبوت ذلك عن النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-.
فأما تفسيره بسؤال الملكين، فقد أخرجه الشيخان من حديث أسماء بنت أبي بكر -رضي اللَّه عنهما-، مرفوعًا...
وأما تفسيره بعذاب القبر، فقد ثبت أيضًا، حيث أمر النبيّ -صلى اللَّه عليه وسلم-: بالتعوّذ من عذاب القبر، وأنه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان يتعوّذ من عذاب القبر، كما بيّنته أحاديث الباب، وغيرها.
والحاصل: أن تفسير الفتنة هنا بما يعمّ سؤال الملكين، وعذاب القبر هو الصواب، واللَّه تعالى أعلم" انتهى.
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "وفتنة الدجال أعظم فتنة منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة؛ كما في "صحيح مسلم" عن عمران بن حصين رضي الله عنه؛ قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة أمر أكبر من الدجال"...
ولهذا نقول: إن فتنة الدجال أعظم فتنة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال: "إنكم تفتنون في قبوركم مثل -أو قريبًا من- فتنة الدجال".
وما أعظمها من فتنة! لأن الإنسان يتلقى فيها السؤال الذي لا يمكن الجواب عليه، إلا على أساس متين من العقيدة والعمل الصالح" انتهى من "شرح العقيدة السفارينية" (2/ 108).
وعلى هذا فسبب الاستعاذة من فتنة القبر أمران:
1-أن أسئلة الملكين لا يجيب عليها إلا المؤمن الموقن، وهو امتحان عظيم يترتب عليه ما بعده، وظاهر الأحاديث يدل على شدته، والتخويف منه.
والاستعاذة من الفتنة على هذا المعنى، يتضمن سؤال الثبات على الإيمان واليقين، وألا تضره هذه الفتنة، ولا تذهله عن الجواب، ووجه الصواب؛ لأن المؤمن هو الذي يجيب، والعبرة بالخواتيم، فلا يغتر العبد بحاله، بل يسأل الله الموت على الإسلام، والتثبيت عند سؤال الملكين.
والدعاء من أعظم أسباب حصول المطلوب، والنجاة من المرهوب.
2-أنه إذا كانت الفتنة تشمل عذاب القبر، فالاستعاذة من ذلك أمرها ظاهر.
ثالثا:
يستثنى من فتنة القبر "خمسة أصناف: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والمرابطون، ومن لا عقل له، كالمجانين والصبيان" كما "شرح العقيدة السفارينية" (2/ 110).
روى النسائي (2053) عَنْ رَاشِدِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ إِلَّا الشَّهِيدَ؟ قَالَ: (كَفَى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَى رَأْسِهِ فِتْنَةً) وصححه الألباني.
وروى مسلم (1913) عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وَإِنْ مَاتَ جَرَى عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وَأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الْفَتَّانَ).
ولو كان هذا الامتحان سهلا، لما كان للشهيد أو للمرابط مزية بإعفائه من السؤال.
فنسأل الله تعالى أن يقينا فتنة القبر، وأن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
والله أعلم.
تعليق