الحمد لله.
إذا طلق الرجل زوجته طلاقا مختلفا فيه، كالطلاق في الحيض، أو في طهر جامعها فيه، ثم استفتى أو قلد من يقول بعدم الوقوع: فلا حرج عليه في ذلك.
ثم إن بان له بعد ذلك رجحان القول الآخر، وهو الوقوع، أو أفتاه به من هو أوثق وأعلم من الأول، فهذا لا ينقض الأول، بل يَعمل بهذا القول المرجّح فيما يستقبل.
وكذا العكس، لو أفتي أولا بوقوع الطلاق وعمل بذلك، ثم بان له رجحان عدم الوقوع، فليس له رفع الطلاق الأول.
وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن حيلة من الحيل أفتى بها بعضُ العلماء، حتى لا يقع طلاق على الزوج، تسمى بـ "مسألة ابن سريج" فقال :
"هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مُحْدَثَةٌ فِي الْإِسْلَامِ؛ وَلَمْ يُفْتِ بِهَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا التَّابِعِينَ ، وَلَا أَحَدٌ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ؛ وَإِنَّمَا أَفْتَى بِهَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ جَمَاعَةُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ.
وَمَنْ قَلَّدَ فِيهَا شَخْصًا، ثُمَّ تَابَ: فَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ، وَلَا يُفَارِقُ امْرَأَتَهُ إذَا كَانَ مُتَأَوِّلًا". انتهى من "مجموع الفتاوى" (33/ 244).
والمراد من قول بعض الفقهاء: "لا تقليد بعد العمل": "أنه إذا عمل مرة في مسألة بمذهب، في طلاق، أو عتاق أو غيرها، واعتقده وأمضاه، ففارق الزوجة مثلا، واجتنبها، وعاملها معاملة من حرمت عليه، واعتقد البينونة بينه وبينها بما جرى منه من اللفظ مثلا، فليس له أن يرجع عن ذلك، ويبطل ما أمضاه، ويعود إليها بتقليده -ثانيا- إماما غير الإمام الأول. فهذا معنى قولهم: "ليس له التقليد بعد العمل، ولا يرجع عما قلد فيه وعمل به"، ونحو ذلك من العبارات.
فأما إذا وقعت تلك الواقعة مرة ثانية، مع امرأة أخرى، أو مع زواجها بنكاح جديد، فله الأخذ بقول إمام آخر ولا مانع منه" انتهى من "القول السديد في بعض مسائل الاجتهاد والتقليد" لابن مُلّا فروخ الحنفي، ص122
وعلق ابن عابدين في "حاشيته" (1/ 75) على قول الحصكفي في الدر المختار " وأن الرجوع عن التقليد، بعد العمل: باطل؛ اتفاقا".
قال ابن عابدين: "وهو محمول، كما قال ابن حجر والرملي في شرحيهما على المنهاج، وابن قاسم في حاشيته: على ما إذا بقي من آثار الفعل السابق أثر يؤدي إلى تلفيق العمل بشيء لا يقول به [أيٌّ] من المذهبين...
أو هو محمول على منع التقليد في تلك الحادثة بعينها، لا مثلها، كما صرح به الإمام السبكي، وتبعه عليه جماعة. وذلك كما لو صلى ظهرا بمسح ربع الرأس مقلدا للحنفي، فليس له إبطالها باعتقاد لزوم مسح الكل مقلدا للمالكي.
وأما لو صلى يوما على مذهب، وأراد أن يصلي يوما آخر على غيره: فلا يمنع منه.
على أن في دعوى الاتفاق نظرا، فقد حُكي الخلاف، فيجوز اتباع القائل بالجواز. كذا أفاده العلامة الشرنبلالي في العقد الفريد، ثم قال بعد ذكر فروع من أهل المذهب صريحة بالجواز، وكلام طويل:
فتحصل مما ذكرناه أنه ليس على الإنسان التزام مذهب معين، وأنه يجوز له العمل بما يخالف ما عمله على مذهبه، مقلدا فيه غير إمامه، مستجمعا شروطه، ويعمل بأمرين متضادين في حادثتين، لا تعلق لواحدة منهما بالأخرى، وليس له إبطال عين ما فعله بتقليد إمام آخر؛ لأن إمضاء الفعل كإمضاء القاضي لا ينقض" انتهى.
وعليه، فما سبق من العمل بالطلاق أو بعدمه، لا ينقض.
وأما ما يستقبل، فإنه يعمل فيه بالقول الآخر الذي ظهر له.
ثانيا:
إذا كان الحامل على التفكير في إمضاء الطلاق الأول هو ضجره من زوجته، وإرادته الانفصال عنها، فإن له أن ينشيء طلاقا جديدا، بعد الاستخارة والاستشارة، دون حاجة للنظر في إمضاء الطلاق الأول.
والله أعلم.
تعليق