الحمد لله.
تقدم في جواب السؤال (8590) أنه لا حرج في بيع الأسهم وشرائها والمتاجرة فيها إذا لم يكن نشاط الشركة محرماً .
وأما كون الشركة عندها نقود أو ديون فإن دخول النقود والديون في بيع الأسهم ليس مقصوداً ، وإنما جاء تبعاً , وقد ذكر العلماء قاعدة : ( أنه يثبت تبعاً ما لا يثبت استقلالاً ) بمعنى أنه يغتفر في الشيء التابع ما لا يغتفر في الشيء المستقل , فهذه النقود والديون إذا بيعت على سبيل الاستقلال لم يصح البيع إلا بشروط معينة ، أما إذا دخلت في البيع تبعاً وليست هي المقصودة فلا بأس بذلك .
وأما كون ما يقابل السهم من ممتلكات الشركة مجهولاً , فالجواب عن هذا أن يقال : بل هو معلوم على سبيل الإجمال , وهذا العلم الإجمالي يكفي لصحة البيع , وقد ذكر العلماء رحمهم الله أن الجهل اليسير لا يمنع صحة البيع .
ويدل لصحة بيع السهم ولو كان في الشركة نقود ، ولو كان نصيب السهم ليس معلوماً بدقة : " ما ورد أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه لما توفى كان ذا مال كثير , فراضى ورثته إحدى زوجاته وهي تماضر الأشجعية على أن تأخذ مقابل سهمها في الميراث مبلغ ثمانين ألف دينار , وكانت التركة تشمل نقوداً وعقاراً ورقيقاً وحيواناً , وكان هذا بعد أن استشار الخليفة عثمان الصحابة , فكان إجماعاً , ولم تكن الدقة في معرفة التركة وتعدد أنواعها وكونها غير مصفاة مانعاً من ذلك , وهذا هو عين بيع الأسهم من الشركات سواء سميناه بيعاً أو صلحاً أو معاوضة " انتهى . قاله فضيلة الشيخ عبد الله البسام . "مجلة المجمع الفقهي" ( 4/1/712) .
وجاء في فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله :
" ورد إلينا استفتاء عن هذه الشركات المساهمة " كشركة الكهرباء ، والأسمنت ، والغاز " ونحوها مما يشترك فيه المساهمون ثم يرغب بعضهم بيع شيء من سهامهم بمثل قيمتها أو أقل أو أكثر حسب نجاح تلك الشركة وضده ، وذكر المستفتي أن الشركة عبارة عن رؤوس أموال بعضها نقد وبعضها ديون لها وعليها , وبعضها قيم ممتلكات وأدوات مما لا يمكن ضبطه بالرؤية ولا بالوصف ، واستشكل السائل القول بجواز بيع تلك السهام ، لأن المنصوص عليه اشتراط معرفة المتبايعَيْن للمبيع ، كما أنه لا يجوز بيع الدًّين في الذمم ، وذكر أن هذا مما عمت به البلوى .
هذا حاصل السؤال منه ، ومن غيره ـ عن حكم هذه المسألة .
والجواب : الحمد لله . لا يخفى أن الشريعة الإسلامية كفيلة ببيان كل ما يحتاج الناس إليه في معاشهم ومعادهم ، قال تعالى : ( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ) النحل/89 .
والكلام على هذا مبني على معرفة حكم عقد هذه الشركة ومساهمة الناس فيها , ولا ريب في جواز ذلك ، ولا نعلم أصلاً من أصول الشرع يمنعه وينافيه ، ولا أحداً من العلماء نازع فيه .
إذا عرف هذا فإنه إذا كان للإنسان أسهم في أية شركة وأراد بيع أسهمه منها فلا مانع من بيعها , بشرط معرفة الثمن ، وأن يكون أصل ما فيه الاشتراك معلوماً ، وأن تكون أسهمه منها معلومة أيضاً . فإن قيل : إن فيها جهالة ، لعدم معرفة أعيان ممتلكات الشركة وصفاتها ؟
فيقال : إن العلم في كل شيء بحسبه ، فلابد أن يطلع المشتري على ما يمكن الاطلاع عليه بلا حرج ولا مشقة ، ولابد أن يكون هناك معرفة عن حالة الشركة ونجاحها وأرباحها ، وهذا مما لا يتعذر علمه في الغالب ، لأن الشركة تصدر في كل سنة نشرات توضح فيها بيان أرباحها وخسارتها ، كما تبين ممتلكاتها من عقارات ومكائن وأرصدة كما هو معلوم من الواقع ، فالمعرفة الكلية ممكنة ولا بد ، وتتبع الجزئيات في مثل هذا فيه حرج ومشقة ، ومن القواعد المقررة : " أن المشقة تجلب التيسير " وقد صرح الفقهاء رحمهم الله باغتفار الجهالة في مسائل معروفة في أبواب متفرقة مثل جهالة أساس الحيطان ، وغير ذلك .
فإن قيل : إن في هذه الشركات نقوداً ، وبيع النقد بنقد لا يصح إلا بشرطه . فيقال : إن النقود هنا تابعة غير مقصودة ، وإذا كانت بهذه المثابة فليس لها حكم مستقل ، فانتفى محذور الربا ، كما سيأتي في حديث ابن عمر .
فإن قيل : إن للشركة ديوناً في ذمم الغير ، أو أن على تلك السهام المبيعة قسطاً من الديون التي قد تكون على أصل الشركة ، وبيع الدَّيْن في الذمم لا يجوز إلا لمن هو عليه بشرطه .
فيقال : وهذا أيضاً من الأشياء التابعة التي لا تستقل بحكم بل هي تابعة لغيرها ، والقاعدة : " أنه يثبت تبعاً مالا يثبت استقلالاً " ويدل على ذلك حديث ابن عمر مرفوعاً : ( مَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا فَمَالُهُ لِلَّذِي بَاعَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ الْمُبْتَاعُ ) رواه مسلم (1543) وغيره ، فعموم الحديث يتناول مال العبد الموجود والذي له في ذمم الناس ، ويدل عليه أيضاً حديث ابن عمر الآخر : ( من باع نخلاً بعد أن تؤبر فثمرتها للذي باعها إلا أن يشترط المبتاع ) متفق عليه . ووجه الدلالة أن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها لا يجوز ، لكن لما كانت تابعة لأصلها اغتفر فيها ما لم يغتفر لو كانت مستقلة بالعقد .
ومما يوضح ما ذكر : أن هذه الشركة ليس المقصود منها موجوداتها الحالية ، وليست زيادتها أو نقصها بحسب ممتلكاتها وأقيامها الحاضرة ، وإنما المقصود منها أمر وراء ذلك وهو نجاحها ومستقبلها وقوة الأمر في إنتاجها والحصول على أرباحها المستمرة غالباً , وبما ذكر يتضح وجه القول بجواز بيعها على هذه الصفة . والله سبحانه أعلم " . انتهى من "فتاوى الشيخ محمد بن إبراهيم" المجلد السابع .
تعليق