الحمد لله.
يعتقد أهل السنَّة والجماعة أن من المسلمين من يدخل الجنة بغير حساب ولا عذاب ، ومنهم من يدخل الجنة بعد الحساب ، ومنهم من يدخل الجنة بعد العذاب في النار ، ما شاء الله له أن يعذب ، ثم خروجه منها .
هذا ، وإن خروج هؤلاء من النار ثم دخولهم الجنة لن يجعلهم في شقاء أو بؤس في الجنة ؛ لأن الجنة دار النعيم ، ولهم ما لأهل الجنة مما ذُكر في الكتاب والسنَّة .
ولا يظهر في الأدلة أن هؤلاء سينغص عليهم بعد دخولهم الجنة بسبب ما كانوا فيه من عذاب في النار .
على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أعلمنا عن صفات هؤلاء بعد خروجهم من النار ، ومن ذلك :
1. أنهم يُلقون في " نهر الحياة " ويُنبتون من جديد .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ يَقُولُ اللَّهُ : مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ فَأَخْرِجُوهُ ، فَيَخْرُجُونَ ، قَدْ امْتُحِشُوا ، وَعَادُوا حُمَمًا ، فَيُلْقَوْنَ فِي نَهَرِ الْحَيَاةِ ، فَيَنْبُتُونَ كَمَا تَنْبُتُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ .
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَلَمْ تَرَوْا أَنَّهَا تَنْبُتُ صَفْرَاءَ مُلْتَوِيَةً . )
رواه البخاري ( 6192 ) ومسلم ( 184 ) .
( امتحشوا ) : أي : احترقوا ، والمحش : احتراق الجلد ، وظهور العظم .
انظر : " النهاية في غريب الحديث " ( 4 / 302 ) .
( حِمماً ) : أي : صاروا سود الأجساد كالحمم ، وهو الفحم .
انظر : " النهاية في غريب الحديث " ( 1 / 444 ) .
( الحبة ) بكسر الحاء ، وهي بزر البقول والعشب ، تنبت في البراري وجوانب السيول .
( حميل السيل ) فبفتح الحاء وكسر الميم , وهو ما جاء به السيل من طين أو غثاء ومعناه : محمول السيل , والمراد التشبيه في سرعة النبات وحسنه وطراوته .
انظر : " شرح مسلم " للنووي ( 3 / 22 ، 23 ) .
2. وبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن حالهم سيتغير بعد خروجهم من النار .
عَن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ – عن الجهنميين – أنهم ( يَخْرُجُونَ مِنْ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا فِيهَا ، فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ عِيدَانُ السَّمَاسِمِ ، فَيَدْخُلُونَ نَهَرًا مِنْ أَنْهَارِ الْجَنَّةِ فَيَغْتَسِلُونَ فِيهِ فَيَخْرُجُونَ كَأَنَّهُمْ الْقَرَاطِيسُ ) .
رواه مسلم ( 191 ) .
قال النووي – رحمه الله - :
قوله : ( فيخرجون كأنهم عيدان السماسم ) هو بالسينين المهملتين : الأولى مفتوحة , والثانية مكسورة , وهو جمع سمسم , وهو هذا السمسم المعروف الذي يستخرج منه الشيرج , قال الإمام أبو السعادات المبارك بن محمد بن عبد الكريم الجزري المعروف بابن الأثير - رحمه الله تعالى - : معناه - والله أعلم - أن السماسم جمع سمسم , وعيدانه تراها إذا قلعت وتركت في الشمس ليؤخذ حبها دقاقا سودا كأنها محترقة , فشبه بها هؤلاء .
قوله : ( فيخرجون كأنهم القراطيس ) القراطيس : جمع قرطاس بكسر القاف وضمها لغتان , وهو : الصحيفة التي يكتب فيها , شبههم بالقراطيس لشدة بياضهم بعد اغتسالهم وزوال ما كان عليهم من السواد .
" شرح مسلم " ( 3 / 52 ) .
وفي رواية البخاري ( 6190 ) :
عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ بِالشَّفَاعَةِ كَأَنَّهُمْ الثَّعَارِيرُ ، قُلْتُ : مَا الثَّعَارِيرُ ؟ قَالَ : الضَّغَابِيسُ )
قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :
أما الثعارير فقال ابن الأعرابي : هي قثاء صغار ، وقال أبو عبيدة مثله .
والمقصود : الوصف بالبياض والدقة .
وأما الضغابيس : فقال الأصمعي : شيء ينبت في أصول الثمام يشبه الهليون يسلق ثم يؤكل بالزيت والخل .
وقيل ينبت في أصول الشجر وفي الإذخر يخرج قدر شبر في دقة الأصابع لا ورق له وفيه حموضة .
وفي غريب الحديث للحربي : الضغبوس شجرة على طول الإصبع , وشبه به الرجل الضعيف .
( تنبيه ) :
هذا التشبيه لصفتهم بعد أن ينبتوا , وأما في أول خروجهم من النار فإنهم يكونون كالفحم كما سيأتي في الحديث الذي بعده .
" فتح الباري " ( 11 / 429 ) .
3. أنهم يصير الواحد منهم مثل اللؤلؤة ، ويحل الله عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم أبداً .
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عن رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَال : ( ... فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : شَفَعَتْ الْمَلَائِكَةُ ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ ، وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنْ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا ، فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهَرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ " نَهَرُ الْحَيَاةِ " فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحِبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ ... قَالَ : فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمْ الْخَوَاتِمُ ، يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ ، هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ ، ثُمَّ يَقُولُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ ، فَيَقُولُونَ : رَبَّنَا أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنْ الْعَالَمِينَ ، فَيَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ، فَيَقُولُونَ : يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا ، فَيَقُولُ : رِضَايَ فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا .)
رواه البخاري ( 7002 ) ومسلم ( 183 ) – واللفظ له - .
وهو حديث عظيم يبين فيه النبي صلى الله عليه وسلم عظيم حال الخارجين من النار ، في كراماتٍ يهبها لهم ربهم تعالى فضلاً منه وكرماً ، ومنها :
أ. الإلقاء في نهر الحياة ، والإنبات من جديد .
ب. يخرجون من النهر كاللؤلؤ في رقابهم الخواتم .
ج. يعطيهم كل ما يجدونه مما يرونه في الجنة .
د. يظنون ، من تنعمهم وبلوغهم الغاية من السرور والحبور ، أن الله تعالى أكرمهم بما لم يكرم به غيرهم .
هـ. يحل عليهم رضوانه ، فلا يسخط عليهم أبداً .
ويؤكد كرامة الله تعالى لمن دخل الجنة من هؤلاء :
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسْعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنِّي لَأَعْلَمُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنْهَا وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا ، رَجُلٌ يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ كَبْوًا فَيَقُولُ اللَّهُ : اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى ، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى ، فَيَقُولُ : اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ ، فَيَأْتِيهَا فَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهَا مَلْأَى ، فَيَرْجِعُ فَيَقُولُ : يَا رَبِّ وَجَدْتُهَا مَلْأَى ، فَيَقُولُ : اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ ، فَإِنَّ لَكَ مِثْلَ الدُّنْيَا وَعَشَرَةَ أَمْثَالِهَا - أَوْ : إِنَّ لَكَ مِثْلَ عَشَرَةِ أَمْثَالِ الدُّنْيَا - فَيَقُولُ : تَسْخَرُ مِنِّي - أَوْ : تَضْحَكُ مِنِّي - وَأَنْتَ الْمَلِكُ ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ، وَكَانَ يَقُولُ : ذَاكَ أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً ) .
رواه البخاري ( 6202 ) ومسلم ( 186 ) .
4. أنه يُطلق عليهم اسم " الجهنميين " و " عتقاء الجبار " ، ثم يُرفع عنهم هذا الاسم .
والجهنميون : جمع جهنمي ، نسبة إلى جهنم ، والمراد : أنَّ الله أعتقهم من جهنم .
عنْ أَنَس بْنِ مَالِكٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنْ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَهَنَّمِيِّينَ ) .
رواه البخاري ( 6191 ) .
وعند أحمد (12060) من حديث أَنَسٍ ـ أيضا ـ : ( ... فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ لَهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ : هَؤُلَاءِ الْجَهَنَّمِيُّونَ !! فَيَقُولُ الْجَبَّارُ : بَلْ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الْجَبَّارِ عَزَّ وَجَلَّ ) .
صححه ابن مندة في " الإيمان " ( 2 / 847 ) ، وابن خزيمة ( 2 / 710 ) ، والألباني في " حكم تارك الصلاة " ( ص 33 ) .
وعند ابن حبان من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : ( ... فيسمون في الجنة " الجهنميين " من أجل سواد في وجوههم ، فيقولون : ربنا أذهب عنا هذا الاسم ، قال : فيأمرهم فيغتسلون في نهر في الجنة فيذهب ذلك منهم ) .
رواه ابن حبان ( 16 / 457 ) وصححه ، وصححه شعيب الأرناؤوط .
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن غمسة واحدة في الجنة تُنسي المسلم كل بؤس عاشه في الدنيا ، فكيف بمن تكون الجنة مستقره وداره ؟! ولا يبعد أن يشمل هذا البؤس الذي عاناه المسلم عندما كان في النار .
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ ، وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ ؟ فَيَقُولُ : لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ .
رواه مسلم ( 2807 ) .
ومما يدل على أن الغمس في نعيم الجنة ، يذهب كل بؤس سبقه ، حتى بؤس العذاب في النار، إضافة إلى ما ذكرناه من تغير هيئاتهم وأحوالهم بعد الإلقاء في نهر الحياة ، ما رواه مسلم (2836) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ يَنْعَمُ لَا يَبْأَسُ لَا تَبْلَى ثِيَابُهُ وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُ ) .
وهذا النعيم المؤكد بنفي البؤس عمن يدخل الجنة ، عام في كل من يدخلها ، سواء دخل النار قبلها ، أو لم يدخل .
قال القاضي : " معناه أن الجنة دار الثبات والقرار ، وأن التغير لا يتطرق إليها ؛ فلا يشوب نعيمها بؤس ، ولا يعتريه فساد ولا تغيير .. " نقله في تحفة الأحوذي (7/194) .
ولأجل ذلك كله ، حكى الله تعالى عن حال أهل الجنة إذا دخلوها : ( وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ) (فاطر:34-35) .
قال الشيخ السعدي رحمه الله : "
أي: الدار التي تدوم فيها الإقامة، والدار التي يرغب في المقام فيها، لكثرة خيراتها، وتوالي مسراتها، وزوال كدوراتها .
وذلك الإحلال مِنْ فَضْلِهِ علينا وكرمه، لا بأعمالنا، فلولا فضله، لما وصلنا إلى ما وصلنا إليه.
لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ أي: لا تعب في الأبدان ولا في القلب والقوى ، ولا في كثرة التمتع ، وهذا يدل على أن اللّه تعالى يجعل أبدانهم في نشأة كاملة ، ويهيئ لهم من أسباب الراحة على الدوام، ما يكونون بهذه الصفة، بحيث لا يمسهم نصب ولا لغوب، ولا هم ولا حزن. "
تفسير السعدي (689) .
والله أعلم
تعليق