من أسماء ربنا جل وعلا اسم (الحكيم )، فهو سبحانه حكيم فيما يقدره، وفيما يأمر به، وينهى عنه، فلا يقضي ربنا قضاء كونيا كان أو شرعيا إلا لحكمة، وتلك الحكمة قد يُطلع الله عليها خلقه وينبههم لها، وقد لا يُطلع عليها أحدا منهم، وقد يطلع عليها بعضا دون بعض.
وفي كل الأحوال فالواجب على العبد أن يسلم لربه وموالاه ما قضاه من الأوامر الشرعية والقدرية وإن جهل حكمتها، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ الأحزاب / 36.
وإن من أوامر الله التي أظهر الله شيئاً من حكمها لعباده: الصوم، فإن للصوم فوائد متعددة ومتنوعة، فله فوائد ظاهرة وباطنة وفوائد فردية واجتماعية، وفوائد الصوم مشهودة بالعقول السليمة، والفطرة المستقيمة، ومن تلك الفوائد ما يلي:
حكم الصيام
1- تقوى الله تعالى ، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ البقرة/183، وختم الله عز وجل آيات الصيام أيضا بذكر التقوى، فقال تعالى: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ البقرة / 187.
2- كسر النفس، فإن الشبع والري ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة.
3- ومنها: تخلي القلب للفكر والذكر، فإن تناول هذه الشهوات تقسي القلب وتعميه، وتحول بين العبد وبين الذكر والفكر، وتستدعي الغفلة، وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب، ويوجب رقته، ويزيل قسوته، ويخليه للذكر والفكر.
4- ومنها: أن الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم، فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سورة الشهوة والغضب، ولهذا جعل النبي صلى الله عليم وسلم الصوم وجاء، لقطعه عن شهوة النكاح.
5- ومن فوائد الصوم: تقوية الإرادة، فالذي يصبر على آلام الجوع والعطش، ويكبح نفسه عن العلاقات الجنسية في وقت الصيام، يحصل له من جراء ذلك قوة في الإرادة تجعله مالكاً لزمام نفسه لا أسيراً لميوله المادية وشهواته الضارة.
6- ومن فوائده أيضا: إضعاف سلطان العادة، فقد بلغ ببعض الأفراد سلطان العادة إلى حد كبير، فلو تأخر عنهم الطعام عن موعده فأصابهم الجوع لساءت أخلاقهم، وقد يكون سلطان المؤثرات من القهوة والشاي والتدخين أشد من سلطان الطعام على أهله، فهؤلاء يعتبرون أسرى لعاداتهم، والصوم يربي الإنسان على التغلب على عاداته السيئة.
7- ومنها: أن الغني يعرف قدر نعمة الله عليه حيث أقدره له على ما منعه عن كثير من الفقراء من فضول الطعام والشراب والنكاح، فإنه بامتناعه عن ذلك في وقت مخصوص وحصول المشقة له بذلك، يتذكر به من مُنع ذلك على الإطلاق، فيوجب له ذلك شكر نعمة الله عليه بالغنى، ويدعوه إلى رحمة أخيه المحتاج ومواساته بما يمكن من ذلك.
8- ومن حكم الصوم: المساواة بين الأغنياء والفقراء، فهذا الصوم فقر إجباري يفرضه الإسلام على المسلمين كافة ليتساوى الجميع في بواطنهم، إنه فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية أن المساواة الصحيحة حين يتساوى الناس في الشعور، لا حين يختلفون، وحين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بالرغبات المتعددة.
9- ومن فوائد صيام رمضان، أن فيه إظهارا لعبادة الله عز وجل في المجتمع بأجمعه، فتجد جميع المسلمين من الشرق إلى الغرب يجتمعون على صيام هذا الشهر، حتى الأشخاص الذين تحصل منهم بعض المخالفات الأخرى، إذا أتى رمضان شاركوا إخوانهم المسلمين على صيام رمضان، فلا تجد بينهم مفطرا، حتى إن العاصي الذي لا يصوم _ والعياذ بالله _ لا يستطيع أن يجاهر بفطره، بل حتى الكافر لا يستطيع أن يظهر فطره أمام المسلمين، ولا شك أن في هذه الظاهرة فوائد عدة، منها: إظهار عبادة الله عز وجل مع أن الصوم عبادة سرية، ومنها: أن في ذلك الجو الإيماني فرصة عظيمة لمن أراد أن يتوب إلى الله عز وجل وينيب إليه وكم من الناس كانت نقطة إنطلاقهم في طريق الهداية هذا الشهر العظيم، ومنها: استشعار العاصي والكافر للذلة والصغار مما ينفره عن الحال التي هو عليها، ومنها: تيسير هذه العبادة على المسلمين، فكون المجتمع كله صائم هذا مما ييسر على العبد هذه العبادة العظيمة الجليلة.
10- من فوائد الصيام تربية النفس على الأمانة، "فإن الذي يكون قويا أمينا في حفظ أمانة الله ورعاية أوامره يكون قويا في عمله، أمينا على ما استرعاه غيره من عمل، ومن خان أمانة الله العظمى في شرائع دينه فهو لغيرها أشد خيانة، ومن تدرب على قوة الإرادة وصدق العزيمة شهرا كاملا عن إيمان واحتساب، فإنه يكون قوي الشكيمة، شديد المراس، صلب في التصميم." انتهى من "صفوة الآثار" للدوسري (3/101).
ومن عجائب ما يذكر أن بعض الكفار كان يمتحن العمال المسلمين، وذلك بتخيرهم بين الصيام وبين خيانة الله فيه، فيغرونهم بمضاعفة الأجور للمفطرين، حتى إذا انتهى الشهر عكسوا الأمر، فضاعفوا أجور الصائمين، ونقصوا المفطرين أو طردوهم، مع التصريح لهم أنهم خونة قد خانوا دينهم! "صفوة الآثار" للدوسري (3/101)
فوائد الصوم الطبية
11- وللصوم فوائد طبية متعددة، فهو يقي بإذن الله تعالى من كثير من الأمراض، يقول أحد الباحثين وهو د. مصطفى الحفار: البحث العلمي الحديث أكد على منافع الصوم ففي فرنسا مراكز مخصصة لدراسة أمراض التغذية والعلاج لها، وقد تبنت لمرضاها الصيام الكامل الدوري، وسمته (العلاج الرمضاني) بعد ما تأكد لها جدوى هذه الطريقة من الصيام وفوائدها على أعضاء الجسم كلها، ونذكر أمثلة على ذلك:
القلب: ينتظم خفقانه وينعم بفترة راحة من الناحية الوظائفية المرهقة الناجمة عن عملية الهضم.
الدم: تنتفي منه الزوائد من الشحوم والدهون والحموضات.
الكبد: هذا المعمل الكبير المتعدد الخصائص يقوم بوظائف دونما إجهاد، فيصنع للجسم المواد الحيوية دونما إرهاق بوجود المعوقات الهضمية وسمومها.
المعدة: إن الصوم لبضعة أيام متوالية يدفع بالغدد الهضمية لأن تقلل من إفرازاتها، وهذا مما يحميها وأغشيتها من زيادة الإفرازات التي هي من أهم أسباب التقرح في المستقبل.
والصوم يحمي الإنسان من البدانة، ومرض السكري، والروماتيزم الناجم عن ترسيب الأملاح البولية في الأنسجة والمفاصل، والحصى الكلوية، وحصى المرارة الدهنية والكلسية وارتفاع الضغط الشرياني ومضاعفاته على الرأس والدماغ والعين والقلب والكلى "روح الدين الإسلامي" لعفيف طبارة (490_491).
ولما كان بعض المرضى يشق عليهم الصيام، فقد أباح لهم الله عز وجل الفطر، وكذلك الحال بالنسبة للمسافر، قال تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ البقرة / 184.
وقد لاحظ الشرع في الصيام التيسير وعدم المشقة، ولهذا كان الأمر في أول الإسلام أن الصائم إذا نام قبل أن يفطر، فإنه يتم صيامه إلى آخر اليوم التالي ولا يفطر، ثم نسخ الله عز وجل ذلك رحمة بعباده، كما ثبت في "صحيح البخاري" (1915) من حديث البراء بن عازب، قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار، فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس بن صرمة الأنصاري كان صائما، فلما حضر الإفطار أتى امرأته، فقال لها: أعندك طعام؟ قالت: لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته، فلما رأته قالت: خيبه لك، فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ البقرة / 187، ففرحوا فرحا شديدا، فنزلت: وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ البقرة / 187.
فالحمد لله على نعمة الإسلام، ونسأله عز وجل أن يديم علينا هذه النعمة، وأن يرزقنا شكرها، وأن يحسن لنا الختام، والله تعالى أعلم وأحكم، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
مقالات أخرى:
هكذا بشر رسول الله أصحابه بقدوم رمضان
7 من أفضل الأعمال الصالحة في رمضان
حال المسلم في رمضان بين الواقع والمأمول
27 بابا من أبواب الخير في رمضان
رمضان فرصة عظيمة للتوبة إلى الله
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في قيام رمضان
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العشر الأواخر من رمضان
فضل العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في زكاة الفطر
تعليق