الحمد لله.
أولا :
هذه المصطلحات المذكورة في السؤال هي مصطلحات أصولية أي تنسب إلى علم أصول الفقه وتذكر فيه ، وهذه المصطلحات تذكر في باب " مفهوم المخالفة " .
و" مفهوم المخالفة " ، ويسمى أيضا "دليل الخطاب" ، معناه : " أن يحكم للمسكوت عنه ، بخلاف حكم المنصوص " انتهى من " الإحكام في أصول الأحكام " لابن حزم (1 / 46).
وقال القاضي أبو يعلى : " ويعبر عنه بأن المسكوت عنه يخالف حكم المنصوص عليه بظاهره ، وقد نص أحمد - رضي الله عنه - على هذا في مواضع : فقال في رواية صالح : " لا وصية لوارث" ؛ دليل أن الوصية لمن لا يرث " .
انتهى " من العدة في أصول الفقه " (2 / 449).
وفي " الفقيه والمتفقه " للخطيب البغدادي (1 / 234) : " وأما دليل الخطاب فهو : أن يعلَّق الحكم على إحدى صفتي الشيء ، فيدل على أن ما عداها بخلافه ؛ كقوله تعالى: ( إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة ) ، فيه دلالة على أن العدل إن جاء بنبإ لم يتبين ، وكذلك قوله تعالى : ( وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ) [ الطلاق: 6] ، فيه دليل على أن المبتوتات غير الحوامل : لا يجب عليهن الإنفاق " انتهى .
وقد استعمل الصحابة رضوان الله عليهم دليل الخطاب (مفهوم المخالفة ) في حديثهم ، فعن عبد الله بن مسعود قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمة ، وقلتُ أخرى ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من مات وهو يجعل لله ندَّا ؛ دخل النار قال عبد الله : وأنا أقول: من مات وهو لا يجعل لله ندا ؛ أدخله الله الجنة . ولم يقل عبد الله هذا إلا من ناحية دليل الخطاب ، فدل على أنه من لغة العرب " .
انتهى من " الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي " (1 / 323) باختصار.
ومفهوم المخالفة : له أقسام عديدة عند الأصوليين . قال القرافي رحمه الله في " الفروق " (2 / 36، 37) : " فهو ينقسم إلى عشرة أقسام :
مفهوم العلة ؛ نحو : ما أسكر كثيره : فهو حرام ؛ مفهومه : ما لم يسكر كثيره فليس بحرام .
ومفهوم الصفة : في الغنم السائمة : الزكاة ؛ مفهومه : ما ليس بسائمة لا زكاة فيه .
ومفهوم الشرط : من تطهر صحت صلاته ؛ مفهومه : من لم يتطهر لا تصح صلاته .
ومفهوم المانع : لا يُسقط الزكاةَ إلا الدين ؛ مفهومه : أن من لا دين عليه لا تسقط عنه .
ومفهوم الزمان : سافرت يوم الجمعة ؛ مفهومه : أنه لم يسافر يوم الخميس .
ومفهوم المكان : جلست أمامك ؛ مفهومه : أنه لم يجلس عن يمينك .
ومفهوم الغاية : ( أتموا الصيام إلى الليل ) [البقرة: 187] ؛ مفهومه : لا يجب بعد الليل .
ومفهوم الحصر : إنما الماء من الماء ؛ مفهومه : أنه لا يجب من غير الماء .
ومفهوم الاستثناء : قام القوم إلا زيدا ؛ مفهومه : أن زيدا لم يقم .
ومفهوم اللقب : تعليق الحكم على أسماء الذوات ، نحو : في الغنم الزكاة ؛ مفهومه : لا تجب في غير الغنم ، عند من قال بهذا المفهوم ؛ وهو أضعفها " انتهى .
فأسقط رحمه الله مفهوم العدد من الأقسام ، وقد عدّه غيره منها .
جاء في " بيان المختصر شرح مختصر ابن الحاجب " (2 / 440) : " مفهوم المخالفة : أن يكون المسكوت عنه مخالفا ، ويسمى دليل الخطاب ، وهو أقسام : مفهوم الصفة ، ومفهوم الشرط ، مثل : وإن كن أولات حمل [الطلاق: 6] ، والغاية ، مثل: حتى تنكح [البقرة: 230] . والعدد الخاص ، مثل: ثمانين جلدة [النور: 4] " انتهى.
ثانيا :
مفهوم العدد : هو مصطلح أصولي معناه تعليق الحكم الشرعي بعدد معين مخصوص ، كقوله تعالى ( الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ ) [النور: 2] ، فقيد الحكم الشرعي وهو وجوب جلد الزاني بعدد معين ، وهو مائة جلدة . وكالحديث الذي رواه مسلم (279) عن أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ ، أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ ) .
جاء في " التقرير والتحبير علي تحرير الكمال بن الهمام " (1 / 117) : " ومفهوم العدد ، وهو دلالة اللفظ المفيد لحكم (عند تقييده) أي الحكم (به) ، أي : بالعدد ، على نقيض الحكم فيما عدا العدد ؛ كقوله تعالى : ( فاجلدوهم ثمانين جلدة ) [النور: 4] ؛ فإنه يدل على نفي وجوب الزائد على الثمانين " انتهى .
وقد اختلف الأصوليون في حجيته ، بمعنى : هل تقييد الحكم بعدد معين ، يدل على انتفائه – أي الحكم المعين – فيما عدا ذلك العدد ، أو لا يدل ؟ هذا محل خلاف بين الأصوليين .
فذهب الإمام مالك ، والشافعي ، فيما نقل عنه ، وأحمد وداود الظاهري إلى حجيته .
جاء في " التحبير شرح التحرير " (6 / 2940) : " قال به الإمام أحمد ، وأكثر أصحابه ، ومالك ، وداود ، وبعض الشافعية ، ومنهم : الشيخ أبو حامد ، وابن السمعاني ، وأبو المعالي ، والغزالي ، وابن الصباغ في " العدة " ، وسليم ، قال: وهو دليلنا في نصاب الزكاة والتحريم بخمس رضعات " انتهى .
وقد استدلوا على ذلك بأدلة منها: ما أخرجه البخاري (4670) ، ومسلم (2400) عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ : " لَمَّا تُوُفِّيَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ، جَاءَ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَسَأَلَهُ أَنْ يُعْطِيَهُ قَمِيصَهُ يُكَفِّنُ فِيهِ أَبَاهُ ، فَأَعْطَاهُ ، ثُمَّ سَأَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ ، فَقَامَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِثَوْبِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ تُصَلِّي عَلَيْهِ ، وَقَدْ نَهَاكَ رَبُّكَ أَنْ تُصَلِّيَ عَلَيْهِ ؟ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّمَا خَيَّرَنِي اللَّهُ فَقَالَ: ( اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً ) [التوبة: 80] ، وَسَأَزِيدُهُ عَلَى السَّبْعِينَ " قَالَ: إِنَّهُ مُنَافِقٌ، قَالَ: فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: ( وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا، وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ ) [التوبة: 84] " .
وجه الاستدلال: ما ذكره ابن أمير الحاج في " التقرير والتحبير " (1 / 125) وهو " أنه - صلى الله عليه وسلم - فهم أن حكم ما زاد على السبعين : خلافُ حكمها " انتهى.
ونفى القول بحجيته الحنفية والمعتزلة والأشعرية وكثير من الشافعية .
والراجح هو القول بحجيته لئلا يخلو ذكر العدد من فائدة ، جاء في " مختصر التحرير شرح الكوكب المنير " (3 / 508) : " والقول به أصح ؛ لئلا يعرى التحديد به عن فائدة " انتهى ، وقال الشوكاني في " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " (2 / 45) : " والعمل به معلوم من لغة العرب ، ومن الشرع ، فإن من أمر بأمر ، وقيده بعدد مخصوص ، فزاد المأمور على ذلك العدد ، أو نقص عنه ، فأنكر عليه الآمر الزيادة أو النقص ، كان هذا الإنكار مقبولا عند كل من يعرف لغة العرب ، فإن ادعى المأمور أنه قد فعل ما أمر به ، مع كونه نقص عنه أو زاد عليه ، كانت دعواه هذه مردودة عند كل من يعرف لغة العرب " انتهى.
ولكن شرط القول بحجيته ألا يُقصَد بذكر العدد مجرد المبالغة والتكثير ، فإن قصد بها المبالغة أو التكثير لم يعتبر العدد ، جاء في " البحر المحيط في أصول الفقه " (5 / 172) : " مَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَا لَمْ يُقْصَدْ بِهِ التَّكْثِيرُ، فَأَمَّا الْمَقْصُودُ بِهِ كَالْأَلْفِ وَالسَّبْعِينَ ، وَغَيْرِهِمَا ، ممَا جَرَى فِي لِسَانِ الْعَرَبِ لِلْمُبَالَغَةِ ، فَلَا يَدُلُّ بِمُجَرَّدِهِ عَلَى التَّحْدِيدِ " انتهى.
ثالثا :
مفهوم اللقب ، مصطلح أصولي يقصد به تعليق الحكم على أسماء الذوات ، جاء في " الفروق " للقرافي (2 / 37) : " ومفهوم اللقب تعليق الحكم على أسماء الذوات نحو في الغنم الزكاة ، مفهومه : لا تجب في غير الغنم عند من قال بهذا المفهوم وهو أضعفها " انتهى .
وقد اختلف الأصوليون هل يدل ذلك التعليق على انتفاء الحكم فيما عدا ذلك الاسم ؟ وقد اشتهر في ذلك الخلاف مذهبان ، والراجح منهما عدم حجيته ، بمعنى أن تعليق الحكم المعين على لقب من الألقاب ، لا يدل على انتفاء ذات الحكم فيما عدا ذلك اللقب .
جاء في " الإحكام في أصول الأحكام للآمدي " (3 / 95) : " اتفق الكل على أن مفهوم اللقب ليس بحجة ، خلافا للدقاق وأصحاب الإمام أحمد بن حنبل - رحمه الله – وصورته : أن يعلق الحكم إما باسم جنس، كالتنصيص على الأشياء الستة بتحريم الربا ، أو باسم علم ؛ كقول القائل: زيد قائم أو قام ، والمختار إنما هو مذهب الجمهور" انتهى.
واستدل الجمهور على عدم حجية مفهوم اللقب بأدلة ، منها ما ذكره الآمدي في الإحكام في أصول الأحكام للآمدي (3 / 95) : " أنه لو كان مفهوم اللقب حجة ودليلا ، لكان القائل إذا قال: " عيسى رسول الله " ، فكأنه قال : " محمد ليس برسول الله " ، وكذلك إذا قال: " زيد موجود " ، فكأنه قال : " الإله ليس بموجود "، وهو كفر صراح ، ولم يقل بذلك قائل" انتهى.
وقد ذكر القرافي – رحمه الله – العلة من ضعف حجية مفهوم اللقب ، فذكر أن ذلك بسبب أن الاسم جامد ، فلا يشعر بتعليل ، جاء في " شرح تنقيح الفصول " (1 / 56) : " ومفهوم اللقب إنما ضعف لعدم رائحة التعليل فيه ، فإن الصفة تشعر بالتعليل ، وكذلك الشرط ونحوه ، بخلاف اللقب لجموده بعدم التعليل فيه " انتهى.
وهناك مذهبان آخران في حجية مفهوم اللقب غير مشهورين ، وهما:
1. أنه يفرق بين اسم النوع فيكون مفهوم اللقب فيه حجة يدل على نفي الحكم فيما عداه ، وبين اسم الشخص فلا يكون مفهوم اللقب فيه حجة .
2. إن قامت قرينة على تخصيص الحكم بهذا الاسم دون ما سواه : كان مفهوم اللقب حجة ، وإن لم تقم قرينة لم يكن حجة .
جاء في " البحر المحيط في أصول الفقه " (5 / 149) : " وَحَكَى ابْنُ بَرْهَانٍ فِي " الْوَجِيزِ " قَوْلًا ثَالِثًا عَنْ بَعْضِ عُلَمَائِنَا، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ ، فَيَدُلُّ عَلَى نَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ، نَحْوُ: فِي السُّودِ مِنْ النَّعَمِ الزَّكَاةُ، وَبَيْنَ أَسْمَاءِ الْأَشْخَاصِ، إلَّا أَنَّ مَدْلُولَ أَسْمَاءِ الْأَنْوَاعِ أَكْثَرُ، وَهُمَا فِي الدَّلَالَةِ مُتَسَاوِيَانِ. وَحَكَى ابْنُ حَمْدَانَ، وَأَبُو يَعْلَى مِنْ الْحَنَابِلَةِ قَوْلًا رَابِعًا، وَهُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ أَنْ تَدُلَّ قَرِينَةٌ فَيَكُونَ حُجَّةً، كَقَوْلِهِ: جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا إذْ قَرِينَةُ الِامْتِنَانِ ، تَقْتَضِي الْحَصْرَ فِيه " انتهى.
رابعا:
مفهوم الحصر ، ويقصد به : إذا ورد أمر في صورة من صور الحصر كالنفي مع الإثبات ، في قوله صلى الله عليه وسلم ( لَا تُقْبَلُ صَلَاةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ ) رواه مسلم (224). أو " إنما " كقوله تعالى : ( إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ، وكقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري (2168) ، ومسلم (1504) ، " إنما الولاء لمن أعتق " ، أو وجود ضمير الفصل كقوله تعالى ( فالله هو الولي ) [الشورى: 9] ، وكقوله تعالى ( إن شانئك هو الأبتر ) [الكوثر: 3] ، أو تقديم المعمول ، كقوله تعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين) وغير ذلك من صور الحصر ، فهل يدل ذلك على انتفاء هذا الأمر فيما عدا صورة الحصر ؟ خلاف بين الأصوليين ، فيه تفصيل وبسط ليس هذا محل ذكره ، ولكن يراجع بالتفصيل في " البحر المحيط في أصول الفقه "(5 / 181- 194).
وأقوى صور الحصر : النفي مع الإثبات ، فيدل على انتفاء الحكم في غير صورة الحصر ، جاء في " إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول " (2 / 47) : " مفهوم الحصر وهو أنواع ، أقواها: ما وإلا ، نحو، ما قام إلا زيد ..... والعمل به معلوم من لغة العرب ، ولم يأت من لم يعمل به بحجة مقبولة " انتهى ، ويليه في القوة الحصر بــ " إنما " قال الشوكاني في " إرشاد الفحول " (2 / 47) : " ثم الحصر بـ إنما، وهو قريب مما قبله في القوة ، وقد نص عليه الشافعي في " الأم" ، وصرح هو وجمهور أصحابه أنها في قوة الإثبات والنفي ، بـــ ما، وإلا." انتهى باختصار.
رابعا:
مما سبق يعلم الجواب عن استفسارك عن قولهم : مفهوم العدد ليس بحجة ؛ فقد سبق بيان
ذلك ، وأن الراجح كونه حجة ما لم يذكر بقصد المبالغة والتكثير.
والله
تعليق