أنا تاجر، جاءني ثلاثة مفتشين يعملون في مقاطعات مختلفة في قطاع حكومي ، وطلبوا مني أن أبيعهم أجهزة للإعلام الآلي؛ أي حاسوب، لأنهم بحاجة إليها في عملهم اليومي، ولكن يريدون أن أحرر لهم فواتير فيها مستلزمات أخرى؛ لأن الجهة المعنية بدفع المبلغ المستحق لا تعوضهم إلا على السلع الاستهلاكية كالورق والأقلام الجافة والحبر، ... الخ، فوافقت على ذلك لاقتناعي بالحجة، لكن بعد مرور مدة زمنية شهور ـ للعلم لم تتم العملية لحد الآن، لأنها تستغرق مدة طويلة للإجراءات الإداريةـ انتابني شعور بالذنب، كأنني سوف أقوم بعملية غير مشروعة، طلبت من المفتشين إلغاء هذا الاتفاق، فقالوا : بأنه من غير الممكن؛ لأنه تمت كل الإجراءات، وأنه تم قبول الفواتير، وسوف أحصل على المبلغ الأسبوع القادم، فلا يمكن التراجع، فلم يبقى لي سوى أمران : - الأول: أن أتراجع عن الاتفاق، وأجبرهم على استلام السلعة المدونة في الفاتورة، حتى يرتاح ضميري، لكن في نفس الوقت أخاف أن أكون قد قمت بخيانة المفتشين بخلاف الاتفاق الذي تم بيننا. - الثاني : أن أسلمهم السلعة حسب الفواتير المحررة، وهذا ليرتاح ضميري، وأن أسلمهم الحواسيب من مالي، أي مجانا لتفادي خيانتهم، ولكن هنا أكون خاسرا في عملية البيع . فما حكم الشرع في ذلك؟
الحمد لله.
الفاتورة هي وثيقة بشراء سلع محددة ، وبسعر محدد ، لجهة محددة ، لا يجوز التلاعب بها ، ولا الغش فيها ؛ فلا يجوز أن يكتب فيها سعرا غير السعر الحقيقي ، أو سلعا غير السلع الحقيقية ؛ لما في ذلك من الكذب والخداع .
وأدلة تحريم الكذب والغش في المعاملات معروفة معلومة لكل مسلم ، قال الله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ التوبة/19 .وقال النبي صلى الله عليه وسلم :
عَلَيْكُمْ بِالصِّدْقِ فَإِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الْجَنَّةِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ وَيَتَحَرَّى الصِّدْقَ ( أي يبالغ فيه ويجتهد ) حَتَّى
يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ صِدِّيقًا ، وَإِيَّاكُمْ وَالْكَذِبَ ، فَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ ، وَمَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ وَيَتَحَرَّى الْكَذِبَ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذَّابًا
رواه مسلم (4721) .
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله :
نرجو منكم أن تتفضلوا بتوضيح الرأي في ظاهرة منتشرة ، وهي أن مندوبي المشتروات الموكلين من قبل شركاتهم أو مؤسساتهم لشراء الأغراض ، يحصلون على مبلغ من المال لأنفسهم من خلال عملية الشراء ، وتحدث هذه العملية غالبا في صورتين:
الصورة الأولى: أن يطلب مندوب المشتروات من البائع وضع سعر مرتفع عن السعر الحقيقي للسلعة على الفاتورة ، ويقوم مندوب المشتروات بأخذ هذا الفرق في السعر لنفسه.
الصورة الثانية: أن مندوب المشتروات يطلب من البائع أن يكتب له فاتورة بنفس سعر السلعة الحقيقي في السوق ، ثم يطلب من البائع مبلغا من المال لنفسه ، يتناسب مع كمية السلع المشتراة ، ويكون ذلك نظير تشجيعه مندوب المشتروات لكي يقصد هذا المحل دائما ، نرجو أن تتفضلوا بالتوجيه وجزاكم الله خيرا؟
فأجاب : الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وبعد:
هاتان الصورتان اللتان سأل عنهما صاحب السؤال : كلتاهما محرمة ، وكلتاهما خيانة ، سواء كان اتفق مع صاحب السلعة على زيادة الثمن عن السعر المعروف في السوق حتى يأخذ الزيادة، أو أعطاه شيئا فيما بينه وبينه ، ولم يجعل في الفاتورة إلا السعر المعروف ؛ كل ذلك محرم ، وكل ذلك خيانة ، وكل هذا من أسباب أن يختار الوكيل من الباعة من يناسبه ، ولا يبالي بالسعر الذي ينفع الشركة ، ويبرئ الذمة ، وإنما يهتم بالشيء الذي يحصل به مطلوبه من البائعين ، ولا يبالي بعد ذلك بالحرص على مصلحة الشركة ، وأن يتطلب السعر المناسب المنخفض ، من أجل النصح لها ، وأداء الأمانة .
فهذا كله لا يجوز؛ لأنه خيانة" انتهى من "مجموع فتاوى ابن باز" (19/33) .
وسئل علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
يحدث بين أصحاب الورش للسيارات عندما يقوم أحدهم بإصلاح سيارة، فإذا احتاجت هذه السيارة إلى قطع غيار فيشتري القطع ، ويطلب من صاحب المحل أن يكتب في الفاتورة مبلغا زائدا عن القيمة الحقيقية، ويأخذ هذا المبلغ من صاحب السيارة كاملا، ويكون الفرق له. ما هو الحكم الشرعي في هذا العمل؟
فأجابوا : "يجب على المسلم الصدق في المعاملة، ولا يجوز له الكذب وأخذ أموال الناس بغير حق.
ومن ذلك: من وكله أخوه في شراء شيء له ، لا يجوز له أن يأخذ منه زيادة على الثمن الذي اشترى به، كما لا يجوز للذي باع عليه أن يكتب في الفاتورة ثمنا غير حقيقي ليغرر بالموكل؛ فيدفع زيادة على القيمة الحقيقية، يأخذها الوكيل؛ لأن هذا من التعاون على الإثم والعدوان، ومن أكل أموال الناس بالباطل، ولا يحل مال مسلم إلا بطيبة من نفسه. وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ عبد العزيز آل الشيخ ... الشيخ صالح الفوزان ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة "(14/275) .
وينظر جواب السؤال رقم : (9345) ، (113700) .
وهناك سبب آخر لتحريم كتابة سلع غير السلع الحقيقية المشتراه في سؤالك ، وهو أن الجهة الممولة لا تسمح بإنفاق المال إلا في شراء أشياء محددة ، فلا يجوز مخالفة ذلك وشراء أشياء لا تسمح بها تلك الجهة .
جاء في "أسنى المطالب" للشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله (2/ 479) :
"(وَلَوْ أَعْطَاهُ دَرَاهِمَ وَقَالَ اشْتَرِ لَك) بِهَا (عِمَامَةً أَوْ اُدْخُلْ بِهَا الْحَمَّامَ) أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (تَعَيَّنَتْ) لِذَلِكَ مُرَاعَاةً لِغَرَضِ الدَّافِعِ .
هَذَا (إنْ قَصَدَ سَتْرَ رَأْسِهِ) بِالْعِمَامَةِ ، (وَتَنْظِيفَهُ) بِدُخُولِهِ الْحَمَّامَ ، لِمَا رَأَى بِهِ مِنْ كَشْفِ الرَّأْسِ ، وَشَعَثِ الْبَدَنِ وَوَسَخِهِ .
(وَإِلَّا) ؛ أَيْ : وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ ، بِأَنْ قَالَهُ عَلَى سَبِيلِ التَّبَسُّطِ الْمُعْتَادِ : (فَلَا) تَتَعَيَّنُ لِذَلِكَ ، بَلْ يَمْلِكُهَا أَوْ يَتَصَرَّفُ فِيهَا كَيْفَ شَاءَ." انتهى.
وقال الشيخ سليمان بن عمر الجمل رحمه الله: " لَوْ دَفَعَ لَهُ تَمْرًا لِيُفْطِرَ عَلَيْهِ : تَعَيَّنَ لَهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ ، فَلَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِهِ ؛ نَظَرًا لِغَرَضِ الدَّافِعِ " انتهى من "حاشية الجمل على شرح المنهج" (2/ 328) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"القاعدة عندنا في هذا : أن من أخذ من الناس أموالاً لشيء معين ، فإنه لا يصرفها في غيره إلا بعد استئذانهم " انتهى من " اللقاء الشهري " .
وينظر جواب السؤال رقم :(191708) .
فإذا ثبت تحريم هذا الفعل ، فالذي يلزمك فعله هو أن تخيِّر هؤلاء بين أحد أمرين :
إما أن تسلمهم ما كتب في الفاتورة .
وإما أن تفسخ البيع معهم، ولا تتمم لهم هذه الصفقة ، وتسترد منهم الفاتورة التي استلموها منك، لئلا يتلاعبوها بها ، ولا يستلموا بها الثمن المذكور فيها من موكلهم.
وليس في هذا خيانة لهم ، وإنما هو توبة من فعل المحرم ، لأن العقد الذي تم معهم عقد محرم يجب الرجوع عنه، "والعقد الفاسد : إذا ارتفع ، ارتفعت جميع متعلقاته" انتهى من "الشرح الممتع" (10/87) .
والله أعلم .