الحمد لله.
أولا :
اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على اشتراط طلب الماء عند فقده لجواز التيمم ما لم يتيقن عدم وجوده ، إلا أنهم اختلفوا في تقدير حد ومسافة هذا الطلب .
جاء في "الموسوعة الفقهية" (14 /255-256)
" اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَدِّ الْبُعْدِ عَنِ الْمَاءِ الَّذِي يُبِيحُ التَّيَمُّمَ :
فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ مِيلٌ وَهُوَ يُسَاوِي أَرْبَعَةَ آلاَفِ ذِرَاعٍ .
وَحَدَّدَهُ الْمَالِكِيَّةُ بِمِيلَيْنِ ، وَالشَّافِعِيَّةُ بِأَرْبَعِمِائَةِ ذِرَاعٍ ، وَهُوَ حَدُّ الْغَوْثِ وَهُوَ مِقْدَارُ غَلْوَةٍ ( رَمْيَةُ سَهْمٍ ) ، وَذَلِكَ فِي حَالَةِ تَوَهُّمِهِ لِلْمَاءِ أَوْ ظَنِّهِ أَوْ شَكِّهِ فِيهِ ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً تَيَمَّمَ ، وَكَذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ فَأَوْجَبُوا طَلَبَ الْمَاءِ إِلَى أَرْبَعِمِائَةِ خُطْوَةٍ إِنْ ظَنَّ قُرْبَهُ مِنَ الْمَاءِ مَعَ الأمْنِ .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِنْ تَيَقَّنَ فَقْدَ الْمَاءِ حَوْلَهُ تَيَمَّمَ بِلاَ طَلَبٍ ، أَمَّا إِذَا تَيَقَّنَ وُجُودَ الْمَاءِ حَوْلَهُ طَلَبَهُ فِي حَدِّ الْقُرْبِ ( وَهُوَ سِتَّةُ آلاَفِ خُطْوَةٍ ) وَلاَ يَطْلُبُ الْمَاءَ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ سَوَاءٌ فِي حَدِّ الْقُرْبِ أَوِ الْغَوْثِ إِلاَّ إِذَا أَمِنَ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَانْقِطَاعِهِ عَنِ الرُّفْقَةِ .
وَقَال الْمَالِكِيَّةُ : إِذَا تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ الْمَاءَ طَلَبَهُ لأِقَل مِنْ مِيلَيْنِ ، وَيَطْلُبُهُ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ فِيمَا قَرُبَ مِنْهُ عَادَةً " انتهى .
والحاصل من مذهب الشافعية : أن للمسافر أربعة أحوال :
الأولى : أن يتيقن فقد الماء فيتيمم حينئذ بلا طلب .
الثانية : أن يتوهم الماء أو يظنه أو يشك فيه ، وفي هذه الحالة فإنه يفتش في منزله وعند رفقته ويتردد قدر "حد الغوث" ، وقدره عندهم أربعمائة ذراع ، فإن لم يجد ماء تيمم لأنه فقده .
وحد الغوث : أنه يتردد في طلب الماء إلى حد تُسمع استغاثته ، بأن يسمعها رفقته ، مع ما عليه الرفقة من تشاغلهم بأشغالهم وتفاوضهم في أقوالهم ، ويختلف ذلك باستواء الأرض واختلافها صعودا وهبوطا .
الثالثة : أن يعلم ماء بمحل يصله مسافر لحاجته كاحتطاب واحتشاش ، وهذا فوق حد الغوث المتقدم ويسمى "حد القرب" ، وهو عندهم ستة آلاف ذراع ، فيجب طلبه منه إن أمن انقطاعه عن رفقته ، وخروج وقت الصلاة ؛ فإن لم يأمن ذلك ، لم يجب طلبه .
الرابعة : أن يكون الماء فوق ذلك المحل المتقدم ، ويسمى " حد البعد " فيتيمم ، ولا يجب قصد الماء لبعده ، فلو تيقن وجود الماء في آخر الوقت ، فانتظاره أفضل من تعجيل الصلاة مع التيمم ، وإن تيقن عدمه ، أو كان مجيئه مظنونا ، أو شك في مجيئه آخر الوقت : فتعجيل الصلاة مع التيمم أفضل .
راجع : "روضة الطالبين" (1/93) ، "حاشية البجيرمي" (2/453-454) ، "أسنى المطالب" (1 /73) ، "المقدمة الحضرمية" (ص 46) .
وهذه الحدود المذكورة هي اجتهادات متفاوتة من الفقهاء ، مرادهم بها التأكد من عدم وجود الماء عند فقده مع ظن وجوده ، في حدود ما يمكن المكلف من البحث عن الماء في الوقت قبل خروجه .
والأصل في أمر المكلف بأن يبدأ في طلب الماء والبحث عنه ، قوله تعالى : ( فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا ) النساء/ 43 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية: أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد تطلبه ، فمتى طلبه فلم يجده : جاز له حينئذ التيمم ، وقد ذكروا كيفية الطلب في كتب الفروع " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2 /318) .
ثانيا :
إذا انقطع الماء وعدم وحصلت المشقة في طلبه :
فإما أن تكون هذه المشقة ظاهرة لا يحتمل مثلها في التكاليف الشرعية التي تتكرر على العبد دائما ، فحينئذ يستبيح المكلف الرخص الشرعية الملائمة لحاله .
وإما أن تكون مشقة خفيفة يحتمل مثلها في مثل هذه الحال . محتملة وحينئذ يجب تحملها وطلب الماء ولا يجوز التيمم.
قال الحافظ السيوطي رحمه الله :
" المشاق على قسمين:
1 - مشقة لا تنفك عنها العبادة غالبا، كمشقة البرد في الوضوء والغسل ، ومشقة الصوم في شدة الحر وطول النهار ، ومشقة السفر التي لا انفكاك للحج والجهاد عنها ، ومشقة ألم الحدود ، ورجم الزناة ، وقتل الجناة ، فلا أثر لهذه في إسقاط العبادات في كل الأوقات .
2 - وأما المشقة التي تنفك عنها العبادات غالبا فعلى مراتب :
الأولى: مشقة عظيمة فادحة : كمشقة الخوف على النفوس ، والأطراف ومنافع الأعضاء : فهي موجبة للتخفيف والترخيص قطعاً ؛ لأن حفظ النفوس والأطراف لإقامة مصالح الدين ، أولى من تعريضها للفوات في عبادة أو عبادات يفوت بها أمثالها .
الثانية: مشقة خفيفة لا وقع لها ، كأدنى وجع في إصبع ، وأدنى صداع في الرأس ، أو سوء مزاج خفيف : فهذه لا أثر لها ، ولا التفات إليها ، لأن تحصيل مصالح العبادات أولى من دفع مثل هذه المفسدة التي لا أثر لها.
الثالثة : متوسطة بين هاتين المرتبتين : فما دنا من المرتبة العليا ، أوجب التخفيف ، أو من الدنيا لم يوجبه ؛ كحُمَّى خفيفة ، ووجع الضرس اليسير .
وما تردد في إلحاقه بأيهما : اختلف فيه .
ولا ضبط لهذه المراتب ، إلا بالتقرب , أي التقريب .
وقد أشار الشيخ عز الدين إلى أن الأولى في ضبط مشاق العبادات: أن تضبط مشقة كل عبادة : بأدنى المشاق المعتبرة في تخفيف تلك العبادة ؛ فإن كانت مثلها أو أزيد : ثبتت الرخصة " انتهى من "الأشباه والنظائر" (ص80-81) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَالْحَرَّاثُ إذَا خَافَ إنْ طَلَبَ الْمَاءَ يُسْرَقُ مَالُهُ أَوْ يَتَعَطَّلُ عَمَلُهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ ، وَإِنْ أَمْكَنَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِوُضُوءِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا وَكَذَلِكَ سَائِر الْأَعْذَارِ الَّذِينَ يُبَاحُ لَهُمْ التَّيَمُّمُ : إذَا أَمْكَنَهُمْ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِطَهَارَةِ الْمَاءِ فَهُوَ خَيْرٌ مِنْ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا بِطِهَارَةِ التَّيَمُّمِ" .
انتهى من "مجموع الفتاوى" (21/457) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" يجب عليه أن يطلب الماء فيما قَرُبَ منه ، فيبحث هل قُرْبه ، أو حَوْله بئر ، أو غدير؟ والقُرب ليس له حَدٌّ محدَّد ، فيُرْجَع فيه إِلى العُرْف ، والعُرْف يختلف باختلاف الأزمنة ، ففي زمَننا وُجِدَت السيَّارات فالبعيد يكون قريباً ، وفي الماضي كان الموجود الإِبل فالقريب يكون بعيداً.
فيبحث فيما قَرُبَ بحيث لا يشقُّ عليه طلبه ، ولا يفوته وقت الصَّلاة .
قوله: وبِدلالةٍ ، يعني: يجب عليه أن يطلب الماء بدليل يَدُلُّهُ عليه .
فإِذا كان ليس عنده ماء في رحْلِه ، ولا يستطيع البحث لِقِلَّةِ معرفته ، أو لكونه إِذا ذهب عن مكانه ضاع ، فهذا فرضُه الدِّلالة ؛ فيَطلُب من غيره أن يَدُلَّه على الماء سواء بمال، أم مجاناً.
وإِذا لم يَجِد الماء في رحَلْهِ ، ولا في قُرْبِه، ولا بدلالة ، شُرِعَ له التَّيمُّم ".
انتهى من "الشرح الممتع" (1/386) .
وسئل علماء اللجنة :
عندما أكون في المرعى آخذ معي ماء يسد حاجتي فقط ، فهل يجوز لي أن أتيمم مع أن القرية تبعد عني كيلو أو أكثر ؟
فأجابوا : " لا يجوز لك التيمم للصلاة في هذه الحالة ؛ لأن المسافة إلى المكان الموجود به الماء قريبة ، ولا يحصل في الذهاب إليها مشقة غالبا ، ولا يخرج وقت الصلاة بطلب الماء في هذه الحالة " انتهى من "فتاوى اللجنة الدائمة" (4 /179) .
فعلى ما تقدم :
إذا انعدم الماء في البلد ، وانقطع عن البيوت والمساجد ، وكان جلب الماء من هذه الإطفائية لا يحصل إلا بمشقة كبيرة وعناء شديد ، أو كانت الكمية المجلوبة من الماء غير كافية لأغراض المعيشة والتطهر بالوضوء والاغتسال : فلا حرج عليكم في التيمم ؛ لقوله تعالى في آخر آية التيمم : ( مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ ) المائدة/ 6 ، ولعموم قوله تعالى : ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) البقرة/ 185.
أما إذا انعدم الماء وانقطع ، وكان جلبه من هذه الإطفائية يحصل بمشقة معتادة للناس في مثل ذلك : فالواجب جلب الماء للتطهر ، ولا يجوز التيمم .
راجع للفائدة جواب السؤال رقم : (26270) ، (149922) .
والله تعالى أعلم .
تعليق