الحمد لله.
أولاً:
جعل الشرع لانتهاء الصوم وبدء الفطر علامةً واضحةً جليةً ، وهي : غروب الشمس خلف الأفق.
فإذا غربت الشمس فقد حل للصائم أن يفطر ؛ لقوله تعالى: ( ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) البقرة/187 .
وأول الليل يبدأ من غروب الشمس ، كما سبق بيان هذا في جواب السؤال : (110407).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : ( إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا [يعني : جهة المشرق] ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا [يعني : جهة المغرب]، وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ : فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ) رواه البخاري (1954) ، ومسلم (1100) .
قال النووي : "يَنْقَضِي الصَّوْمُ وَيَتِمُّ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ " .
انتهى من "المجموع شرح المهذب" (6/ 304) .
وقال ابن عبد البر: " وَالنَّهَارُ الَّذِي يَجِبُ صِيَامُهُ : مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، عَلَى هَذَا إِجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ " انتهى من "التمهيد" (10/62).
والمقصود بالغروب : غياب كامل قرص الشمس واختفاؤه ، ولا عبرة بالحمرة الباقية في الأفق ، فحيث غاب كامل القرص ، فقد حل الفطر .
قال الحافظ ابن رجب: " هذا الحديث يدل على أن مجرد غيبوبة القرص ، يدخل به وقت صلاة المغرب ، كما يفطر الصائم بذلك ، وهذا إجماع من أهل العلم: حكاه ابن المنذر وغيره.
قال أصحابنا والشافعية وغيرهم : ولا عبرة ببقاء الحمرة الشديدة في السماء بعد سقوط قرص الشمس وغيبوبته عن الأبصار" انتهى من "فتح الباري" (4/352) بتصرف يسير.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : " إذا غاب قرص الشمس : حينئذ يفطر الصائم ، ويزول وقت النهي ، ولا أثر لما يبقى في الأفق من الحمرة الشديدة في شيء من الأحكام" .
انتهى من "شرح عمدة الفقه" (ص: 169).
وقال النووي: " وَلَا نَظَرَ بَعْدَ تَكَامُلِ الْغُرُوبِ إلَى بَقَاءِ شُعَاعِهَا ، بَلْ يَدْخُلُ وَقْتُهَا [يعني : صلاة المغرب] مَعَ بَقَائِهِ " انتهى من "المجموع شرح المهذب" (3/29) .
ثانياً :
الصائم وقت الغروب لا يخلو من حالين :
الأولى : أن يكون في مكانٍ يتمكَّن فيه من رؤية غروب الشمس خلف الأفق ، كأن يكون في صحراءٍ ، أو فضاءٍ من الأرض ، أو على رؤوس الجبال ، أو في مكان مرتفع يتمكن منه من رؤية الشمس وهي تغيب عن الأفق .
ففي هذه الحال يفطر عند غياب كامل قرص الشمس.
قال النووي : " وَالِاعْتِبَارُ سُقُوطُ قُرْصِهَا بِكَمَالِهِ ، وَذَلِكَ ظَاهِرٌ فِي الصَّحْرَاءِ ".
انتهى من "المجموع " (3/ 29) .
الثانية : أن يكون في مكان يتعذر فيه رؤية غياب الشمس خلف الأفق ، إما لكونه من سكان المدن حيث تحول الأبينة بينه وبين رؤية الأفق ، أو لوجوده في مكان منخفض كالوديان ، أو لوجود جبال تحول بينه وبين رؤية الشمس ، وغير ذلك .
ففي هذه الحال لا يحل له الفطر بمجرد غياب الشمس عن ناظريه ، لأنها قد تغيب عن عينيه ولكنها لم تغرب بعد ، بسبب اختفائها خلف الأبنية ، وفي هذه الحالة يمكنه الاستدلال على غروبها باختفاء أشعتها التي تكون على الجدران العالية ، أو بإقبال الليل من جهة المشرق – إن أمكن رؤية ذلك – والمقصود بإقبال الليل هو ظهور ظلمة الليل في السماء من جهة المشرق ، وليس المقصود انتشار الظلمة في السماء كلها ، فإن ذلك يكون بعد غروب الشمس بمدةٍ ..
قال النووي : " وأمَّا في العمران وقُلل الجبال : فالاعتبار بأن لا يُرى شيءٌ مِنْ شُعَاعِهَا عَلَى الْجُدَرَانِ وَقُلَلِ الْجِبَالِ ، وَيُقْبِلُ الظَّلَّامُ مِنْ الْمَشْرِقِ " انتهى من " المجموع " (3/29).
[ قلَّة الْجَبَل : هِي الْقطعَة تستدير فِي أَعْلَاهُ ، ينظر: " جمهرة اللغة" (1/164) ] .
وقال في " الفواكه الدواني" (1/168) : " مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ : غُرُوبُ الشَّمْسِ ، إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَكُونُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ ، أَوْ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ.
وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ خَلْفَ الْجِبَالِ : فَلَا يُعَوِّلُ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ، وَإِنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى إقْبَالِ الظُّلْمَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ ، فَإِذَا ظَهَرَتْ ، كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَغِيبِهَا ، فَيُصَلِّي وَيُفْطِرُ " انتهى
وقال ابن دقيق العيد : " وَالْأَمَاكِنُ تَخْتَلِفُ ، فَمَا كَانَ مِنْهَا فِيهِ حَائِلٌ بَيْنَ الرَّائِي وَبَيْنَ قُرْصِ الشَّمْسِ : لَمْ يَكْتَفِ بِغَيْبُوبَةِ الْقُرْصِ عَنْ الْأَعْيُنِ ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى غُرُوبِهَا بِطُلُوعِ اللَّيْلِ مِنْ الْمَشْرِقِ" انتهى من "إحكام الأحكام " (1/166).
وقال الحطَّاب : " وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ : إذَا غَابَ قُرْصُ الشَّمْسِ ، بِمَوْضِعٍ لَا جِبَالَ فِيهِ ، فَأَمَّا مَوْضِعٌ تَغْرُبُ فِيهِ خَلْفَ جِبَالٍ ، فَيُنْظَرُ إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ ، فَإِذَا طَلَعَتْ الظُّلْمَةُ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَغِيبِ الشَّمْسِ" انتهى من "مواهب الجليل" (1/392) .
ويدل لهذا الحديث السابق : ( إِذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا [ أي جهة المشرق] ، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا [أي : جهة المغرب] ، وَغَرَبَتْ الشَّمْسُ : فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ ) .
قال القرطبي: " أحد هذه الأشياء يتضمن بقيتها ؛ إذ لا يُقِبل الليل إلا إذا أدبر النهار ، ولا يُدبر النهار إلا إذا غربت الشمس ، ولكنه قد لا يتفق مشاهدة عين الغروب ، ويُشاهد هجوم الظلمة حتى يتيقن الغروب بذلك : فيحل الإفطار" انتهى من "إكمال المعلم" (4/35) .
وقال النووي : " قَالَ الْعُلَمَاءُ كُلٌّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ يَتَضَمَّنُ الْآخَرَيْنِ وَيُلَازِمُهُمَا ، وَإِنَّمَا جَمَعَ بَيْنَهَا ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي وَادٍ وَنَحْوِهِ ، بِحَيْثُ لَا يُشَاهِدُ غُرُوبَ الشَّمْسِ ، فَيَعْتَمِدُ إِقْبَالَ الظَّلَامِ وَإِدْبَارَ الضِّيَاءِ " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (7/ 209) .
وقال ابن دقيق العيد : " الْإِقْبَالُ وَالْإِدْبَارُ مُتَلَازِمَانِ ، أَعْنِي : إقْبَالَ اللَّيْلِ وَإِدْبَارَ النَّهَارِ.
وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُهُمَا أَظْهَرَ لِلْعَيْنِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ ، فَيُسْتَدَلُّ بِالظَّاهِرِ عَلَى الْخَفِيِّ ، كَمَا لَوْ كَانَ فِي جِهَةِ الْمَغْرِبِ مَا يَسْتُرُ الْبَصَرَ عَنْ إدْرَاكِ الْغُرُوبِ ، وَكَانَ الْمَشْرِقُ بَارِزًا ظَاهِرًا ، فَيُسْتَدَلُّ بِطُلُوعِ اللَّيْلِ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ" انتهى من "إحكام الأحكام" (2/ 27).
تعليق