الأحد 23 جمادى الأولى 1446 - 24 نوفمبر 2024
العربية

الوسواس القهري

تاريخ النشر : 29-10-2023

المشاهدات : 7832

مدخل:

الوسواس القهري مرض نفسي معروف، يُصاب به الإنسان من غير إرادة ولا اختيار، وهو كسائر الأمراض الجسمية والنفسية يُعد ابتلاء يؤجر العبد على صبره عليه، ويُندب للعبد أن يطلب التداوي منه؛ فما أنزل الله من داء إلا وله دواء.

وقد أدى استعمال كلمة "الوسواس" في التعبير عن هذا المرض، إلى تداخله مع الوسواس الذي يكون من النفس ومن الشيطان، والذي يشترك مع "الوسواس القهري" أيضا في أن بدايته لا تكون باختيار الإنسان، ويختلف عنه من ناحية أن الوسواس القهري له أسباب عضوية، كما أن له معدلات تكرار وضغط وقهر، أعنف بكثير من الآخر.

ويبدو أن هذا الاشتراك "المصطلحي" في التعبير عن المفهومين، هو أحد أهم أسباب الخلل في فهم الوسواس القهري، واختلاط المقصود به مع الوسواس الشيطاني، مما استتبع بعض الأخطاء في المعالجة، واستتبع أيضًا لوم المرضى لأنفسهم، واعتقادهم أن ما هم فيه ناشيء من ضعف الإيمان.

لأجل ذلك اقترح بعض المتخصصين، مثل الدكتور وائل أبو هندي، تغيير كلمة الوسواس هنا، وتسمية المرض: الاستحواذ القهري، ينظر كتابه: "الوسواس القهري" (ص/18) وما بعدها.

هل يعني هذا أنه لا دخل للشيطان في حدوث الوسواس القهري؟

لا. ما زال هناك احتمال لعلاقة الشيطان بنشأة مرض الوسواس القهري، لكن لا أثر لذلك أيضا في إيمان المريض، ولا ثوابه وعقابه على نفس المرض، كما أن دم "الاستحاضة" مسألة "بيولوجية" محضة، لا مدخل لها في إيمان صاحبها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه ، إنه : ( رَكْضَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ ) [ حديث حسن، رواه الترمذي (128) وغيره ]؛ لكن المقصود أن هناك أسبابا وراثية وبيولوجية وبيئية للمرض، تؤدي لاختلاف طبيعته عن طبيعة الوسواس الشيطاني التقليدي، بما يؤدي لاختلاف طرق الفهم والمعالجة.

 ولكي يتجلى الكلام حول الوسواس القهري وطرق التعامل معه سننظم الجواب في العناصر التالية:

أولًا: الوسواس

مفهوم الوسواس في اللغة والاصطلاح

الوسواس في لغة العرب:

قال ابن فارس: "الواو والسين: كلمة تدل على صوت غير رفيع. يقال لصوت الحلي: وسواس. وهمس الصائد وسواس. وإغواء الشيطان ابنَ آدم: وسواس" [1].

"والوسوسة والوسواس - بفتح الواو الأولى وبكسرها - هو حديث النفس"[2].

وأيضا فإن الوسوسة هي الخَطْرة الرديئة، قال تعالى: فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ [الأعراف: 20].

 والوسواس هو الهمس الخفي [3]، وفي القرآن: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16].

ورجل موسوِس: إذا غلبت عليه الوسوسة.

ويطلق الوسواس على الشيطان نفسه، من باب: إطلاق المصدر على الفاعل، فيصبح أحد أسمائه كما قال تعالى: مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ [الناس: 4، 5] [4].

الوسواس في الاصطلاح:

هو حديث النفس أو الشيطان بما لا نفع فيه ولا خير [5].

أهم الأحاديث النبوية الواردة في وصف الوسواس.

يمكن تصنيف هذه الأحاديث إلى عدة فئات من حيث تناولها للوسواس:

1- أحاديث تصف وسوسة الشيطان الإنسان ليفعل المعصية:

       عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: إن للشَّيطانِ للمَّةً بابنِ آدمَ، ولِلمَلك لَمَّةٌ، فأمَّا لمَّةُ الشَّيطانِ: فإيعادٌ بالشَّرِّ وتَكْذيبٌ بالحقِّ، وأمَّا لمَّةُ الملَكِ، فإيعادٌ بالخيرِ وتصديقٌ بالحقِّ. فمَن وجدَ ذلِكَ فليعلم أنَّهُ منَ اللَّهِ، فليحمَدِ اللَّهَ، ومن وجدَ الأخرى فليتعوَّذ منَ الشَّيطانِ. ثمَّ قرأَ:  {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268] الآيةَ) أخرجه الترمذي(2988)، والنسائي في "السنن الكبرى" (11051)، وصحح إسناده الشيخ أحمد شاكر في "عمدة التفسير" (1/325).

2- أحاديث تثبت صحة الإيمان لمن عانى من الوسواس:

1)  حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: جاء ناسٌ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به، قال: (وقد وجدتموه؟) قالوا: نعم، قال: (ذاك صريح الإيمان) أخرجه مسلم (132).

والمعنى: أنهم يجدون في أنفسهم كلاما سيئا عن الدين أو الإله، ولا يتجرؤون على التعبير عنه، ولعله هو الكلام المفسر في الحديث الذي سيأتي بعد ذلك أنه كلام عمن خلق الله.

2)  حديث عبد الله بن مسعود: سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوسوسة، قال: (تلك محض الإيمان) أخرجه مسلم (133).

3- أحاديث ترفع المؤاخذة عن حديث النفس والوسوسة:

1- إن الله تجاوز لأمتي عما توسوِس به صدورها، ما لم تعمل به، أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه "صحيح ابن ماجه" (1676).

4- أحاديث تنسب الوسواس إلى الشيطان:

1)  حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: جاء رجلٌ إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن أحدنا يجد في نفسه، يُعَرِّضُ بالشيء، لَأن يكون حُمَمَة أحب إليه من أن يتكلم به، فقال: (الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة) "صحيح سنن أبي داود" (5112).

2)  حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الشيطان إذا سمع النداء بالصلاة أحال له ضراط حتى لا يُسمع صوته. فإذا سكت، رجع فوسوس، فإذا سمع الإقامة ذهب حتى لا يُسمع صوتُه، فإذا سكت رجع فوسوس أخرجه مسلم (389).

5- أحاديث تقدم علاجا عمليا منها الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم:

1) روى مسلم (2203): أن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الشيطان قد حال بيني وبين صلاتي وقراءتي يلبسها علي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك شيطان يقال له خنزب، فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه، واتفُل على يسارك ثلاثا) قال: ففعلت ذلك فأذهبه الله عني.

2) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربَّك؟ فإذا بلغه، فليستعذ بالله ولينتَهِ أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).

3) وفي الحديث: يوشك الناس يتساءلون، حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذْ من الشيطان "صحيح الجامع" (8182).

6- أحاديث تقدم علاجا عمليا سلوكيًا للوسواس دون الأمر بالاستعاذة من الشيطان:

1)  حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا يزال الناسُ يتساءلون، حتى يقال: هذا خلق الله الخلق، فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئًا، فليقل: آمنت بالله صحيح سنن أبي داود (4721).

2)  أن عبد الله بن زيد شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرجلُ الذي يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة؟ فقال: (لا ينفتل –أو لا ينصرف- حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا أخرجه البخاري (177) [6].

وقفة مع دلالات أحاديث الوسواس

 وعند تأمل هذه الأحاديث نجد أنها تصف نوعين أساسيين من الوسواس:

الأول: الوسواس الذي يدعو الإنسان إلى أن ينظر أو يفعل أو يستمع إلى شيء محرم. وهذا النوع من الوسواس من طبيعة النفس البشرية، ويدخل للنفس من جهة هواها، وما تشتهيه وتطلبه. وهذا الوسواس ليس صادرا عن خلل بيولوجي، ولا هو مرض في حد ذاته، ومن المفهوم أن يصيب النفوس البشرية قاطبة، دون الاقتصار على تصنيف مرضي خاص للشخص الذي يبتلى به.

والاستجابة لهذا النوع من الوساوس هي التي تُعرِّض الإنسانَ للحساب والجزاء من الله.

ومصدر هذا الوسواس يأتي من ثلاث: النفس الأمارة بالسوء، وشياطين الجن، ومثلهم من الإنس، لكن وساوس الإنس تكون كلامًا مسموعًا وليست خطرات في النفس والعقل.

الثاني: الوسواس بمعنى الشك العابر (الذي ليس عادة منتظمة)، الذي يأتي في الأمور الدينية والحياتية، فيشكك الإنسان في أصل إيمانه أو وضوئه وصلاته وصديقه وقريبه الخ، ومثل عدم التعقل (الخشوع) في الصلاة.

وهذا الوسواس لا يدعو النفس إلى ما تحبه، لكنه يريد إدخال الريب والشك على الإنسان، سواء كان تشكيكًا فيما يعتقده الإنسان إيمانا، أو في فعل هل فعله أم لم يفعله، أو يكون غرض الوسواس أن يشغل النفس عن الأمور المطلوبة منها ولها.

وهذا الوسواس يمكن أن يزول على الفور بالاستعاذة بالله من الشيطان، ومن خلال تذكر أن هذه الأفكار لا دليل عليها، فيوقفها بالاجتهاد مع النفس والحزم معها.

ومصدر هذا الوسواس هو الشيطان، ويَحتمل أن يكون بعضه من حديث النفس.

وقد نص علماء المسلمين على التفرقة بين هذا الوسواس العارض، وبين النوع الآخر الذي توصل الطب الحديث إلى تسميته بالوسواس القهري.

قال الحطّاب -رحمه الله- في "مواهب الجليل" (2/466): "المُسْتَنْكِح: هو الذي يشُكُّ في كل وضوء، أو صلاة، أو يطرأ له ذلك في اليوم مرة أو مرتين، وإن لم يطرأ له ذلك إلا بعد يومين أو ثلاثة: فليس بمستنكح" انتهى.

  • ثانيًا: الوسواس القهري

1- حقيقة مرض الوسواس القهري:

(Obssessive Comulsive Disorder- OCD)

في كتاب البندول للدكتور محمد الشامي: "الوسواس القهري هو سيطرة فكرة محددة، تفرض نفسها على صاحبها بإلحاح لا يمكن التغلب عليه. فهي فكرة غريبة على تفكير الشخص، ويعلم أنها ليست منه، وأنها غير صحيحة بالنسبة له، وغير مقنعة. وتكون مصحوبة عادة بالخوف والقلق بسبب وجودها نفسها، أو من توابعها، لكنه لا يستطيع طردها من دماغه، بل تظل تتردد في دماغه حتى تعطله عن حياته اليومية، ثم تقهره لفعل أفعال قهرية، ظنا منه أن هذه الأفعال ستقلل من حدة هذا الوسواس، لكن في الواقع فإن الوسواس يزيد مع الوقت" [7].

يعرف الدليل التشخيصي والإحصائي للأمراض النفسية الخامس (DSM 5) (والمعتمد في الأوساط الطبية على مستوى العالم) هذا الاضطراب باحتوائه على كل من:

1) وجود إما وساوس، أو أفعال قهرية، أو كلاهما:

أ)   أفكار، أو اندفاعات، أو صور متكررة وثابتة، تُعتبر في وقت ما، أثناء الاضطراب، مقتحمة، متطفلة، وغير مرغوبة، وتسبب عند معظم الأفراد قلقًا أو إحباطًا ملحوظًا.

ب) يحاول المصاب تجاهل أو قمع مثل هذه الأفكار أو الاندفاعات أو الصور، أو تحييدها بأفكار، أو أفعال أخرى (أي بأداء فعل قهري).

تعرف الأفعال القهرية بصفتين:

أ)   سلوكيات متكررة (مثل: غسل اليدين، الترتيب، التحقق) أو أفعال عقلية (مثل: القراءة في الصلاة، العد، تكرار الكلمات بصمت)، والتي يشعر المريض أنه مُساق لأدائها استجابة لوسواس، أو وفقًا لقواعد ينبغي تطبيقها بصرامة.

ب) تهدف السلوكيات أو الأفعال العقلية إلى منع أو تقليل الإحباط أو القلق، أو منع حادث أو موقف فظيع، إلا أن هذه السلوكيات أو الأفعال العقلية: إما أنها ليست واقعية بما هي مصممة له لتحييدها أو منعها، أو أنها مفرطة.

2) تكون الوساوس والأفعال القهرية مستهلكة للوقت (تستغرق أكثر من ساعة يوميًا مثلا)، أو تسبب إحباطًا شديدًا، أو ضعفًا في أداء المجالات الاجتماعية والمهنية، أو غيرها من مجالات الأداء الهامة الأخرى [8].

ويلخص الدكتور وائل أبو هنيدي (الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي ص/19) شروط الفكرة التي تعد بها وسواسًا قهريًا فيما يلي:

  1. أن يشعر المريض أن الفكرة تحشر نفسها في وعيه، وتفرض نفسها على تفكيره رغمًا عنه، لكنها مع ذلك تنشأ من رأسه هو، وليست بفعل مؤثر خارجي.
  2. أن يوقن المريض تفاهة، أو لا معقولية الفكرة، وعدم صحتها، وعدم جدارتها بالاهتمام.
  3. محاولة المريض المستمرة لمقاومة الفكرة، وعدم الاستسلام لها.
  4. إحساس المريض بسيطرة هذه الفكرة، وقوتها القهرية عليه؛ فكلما قاومها زادت إلحاحًا عليه فيقع في دوامة من التكرار الذي لا ينتهي.

تاريخ التسمية

أول من ذكر هذا المسمى كمرض طبي الطبيب الفرنسي جين إيتين دومينيك (Jean-Etioenne Dominique)  سنة 1838 باعتباره نوعا من أنواع الجنون، ثم ذكره الطبيب النفسي الألماني كارل فيستفال (Karl Westphal) سنة 1877، ثم نشر الأخصائي النفسي الفرنسي بيير جانيه (Pierre Janet) كتاباً بعنوان الوسواس والوهن النفسي Obsessions and Psychasthenia)) سنة 1903، ثم انتشر المصطلح أكثر من خلال كتابات فرويد في كتبه المتعددة والتي انتشرت على مستوى واسع بعد ذلك[9].

مدى الانتشار

يشعر مريض الوسواس القهري أنه يعاني لوحده، دونا عن الآخرين، من هذا المرض، لكن في الحقيقة فإن هذا المرض يعتبر من الأمراض المنتشرة بين البشر، فيصاب به 2-3 % من الناس، أو ما يساوي شخص من كل أربعين، بينما تكون نسبة انتشاره بين الأطفال طفل من كل مائتي طفل.

2- أنواع الوسواس القهري

الوسواس القهري له أشكال مختلفة تتنوع تنوعا كبيرا، وتشترك كلها في أن هناك فكرة محددة تسيطر على تفكير الإنسان، ولا يستطيع مقاومتها، فتقهره لتنفيذ فعل معين. يصعب حصر كل أنواع الوسواس هنا، لكن يمكن ذكر أشهر أنواعه:

أ)   وسواس النظافة والطهارة: والذي يُشعر المريض بأن جزءا من جسمه (اليدين عادة) غير نظيف، فيغسلها، ثم يشعر بنفس إحساس عدم النظافة، فيدخل مرة أخرى ليغسلها، وتستمر الفكرة ويتكرر الفعل مرات عديدة. وربما ظل يغسلها لمدة ساعة كل مرة، حتى يتأثر جلد اليدين ويتهتك. كما أنه يكرر عملية الاستحمام مرات كثيرة، وكل مرة تكون مدة الاستحمام طويلة تصل إلى ساعة أو ساعات، بسبب الشك في عدم غسل كل مكان في جسمه جيدا جدا. وعلى الرغم من استغراب المريض للفكرة المزعجة، لكنه مع الوقت يبرر ذلك بأنه يشعر أن شيئا ما أثر على نظافته، أو أن عملية التنظيف التي فعلها لم تكن كافية فيكررها، ولا يقتنع مهما كانت شدة وقوة عملية الغسل الواحدة. ويشمل ذلك أيضا عملية التطهير للوقاية من الفيروسات والبكتيريا –والتي شوهدت بشكل كبير في أثناء جائحة كورونا التي بدأت سنة 2020 م-، فعملية التطهير لا تتوقف حتى وصلت للوسوسة أن أي شيء يمكن أن ينقل المرض إليه. وقد يصل الأمر بمريض وسواس النظافة أن لا يخرج من منزله إلا في الضرورة القصوى، خشية من الدخول في الطقوس المتكررة المزعجة المتعبة التي يمارسها كلما خرج وعاد إلى المنزل.

ومن صور هذا الوسواس أيضا: تقزز المرأة بشكل مبالغ فيه من نفسها في أيام الدورة الشهرية فتغسل ثيابها التي تلبسها كل يوم، مع غسل أغطية السرير والكراسي التي استخدمتها، على الرغم من استخدامها المفرط للحفاظات (الفوط الصحية)، وتتقزز أيضا من النساء الأخريات في نفس هذه الأيام، لدرجة منعهن من الجلوس على سريرها أو كرسيها أو استخدام حمامها الخاص، وتتجنب المرور في الشارع بالقرب من أماكن النفايات خوفا من أن يكون فيها حفاظات نسائية مستخدمة وملقاة في القمامة.

     وعند الرجال، يأتي الوسواس في صور قطرات البول القليلة التي تنزل بعد التبول –ويسمى بسلس البول-، فنجد الموسوس كثير المحاولة لتنزيل كل ما فيه من البول بطرق كثيرة –مثل الكحّ المتكرر والتدليك العنيف- ويطيل الوقت أكثر من اللازم في عملية التطهر والاستنجاء.

ب)  وسواس الصلاة: مثل الشك المستمر في عدد الركعات والركوع والسجود، فيعيد الصلاة مرات ومرات ليتأكد من صحتها، ويسجد للسهو كثيرا للتعويض عن الذي قصره في الصلاة –حسب ظنه-، وكذلك الشك في استحضار النية للصلاة وأن النية صحيحة لها، فيقف طويلا يفكر فيها قبل عملها، حتى إن وقت الصلاة قد يخرج وهو لا زال يفكر في النية. وكذلك الشك في عمل تكبيرة الإحرام للدخول في الصلاة بشكل صحيح، ويكرر التكبيرة أكثر من مرة للتأكد من أنها صحيحة.

ج)  وسواس الأفكار الدينية: مثل الأفكار والعبارات المسيئة لله عز وجل أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو الدين أو القرآن. وهذه الأفكار تُحدث إزعاجا شديدا للشخص، بسبب أنه يشعر أنه قد خرج من الدين بسبب هذه الأفكار التي لا يقتنع بها، لكنه لا يستطيع طردها. ويمكن أن يظل يكرر الشهادتين مرات باعتبار أنه قد خرج من الدين ويحتاج أن يدخل في الدين من جديد، وهذه الأفكار تختلف تماما عن أفكار الإلحاد التي يفكر فيها الشخص من باب الشبهة، وليس من باب الرفض ومحاولة الطرد كما يحدث في حالة الوسواس القهري. ومن الملفت للانتباه أن أغلب الذين يعانون من هذا الوسواس، هم من الأشخاص الذين لديهم حرص على الالتزام بالدين.

د)   وسواس الأفعال الدينية: مثل التشدد والتنطع في مخارج الحروف أثناء الكلام أو قراءة القرآن بما يزيد عن المقدار الطبيعي للكلام والتجويد. وكذلك الوسوسة عند الرجال المتزوجين إذا كانوا قد طلقوا زوجاتهم دون قصد، والوسوسة في طهارة الماء الموجود في الشارع بدون علامة لنجاسته، وهل تم التسمية على الحيوان المذبوح أم لا، وغيره.

     وعند المسيحيين يأتي في صورة تكرار الاعتراف في الكنيسة للحصول على الغفران، والخوف من أن يكون قد مشى على شيء يشبه الصليب.

هـ)  وسواس التأكد والتحقق: لا يتوقف عن التأكيد على غلق الأبواب والنوافذ مرات ومرات ويظل يشك أنهم لم يُغلقوا. وكذلك غلق الموقد (البوتاجاز) مرات ومرات مع مخاوف متكررة من احتمالية حدوث حريق. ويمكن أن يعود من الخارج بعد ترك منزله ليتأكد من ذلك، ويتأخر على مواعيده بسبب كثرة الشك والتأكيد والعودة لذلك.

و)  وسواس العدّ: فيظل يعد النقود مرات ليتأكد من عددها أكثر من مرة، على الرغم أنه يعرف عددها جيدا. ويمكن أن يعد متعلقاته الشخصية أكثر من مرة (مثل الأقلام) أو أجزاء من المنزل (عدد البلاط في الأرض).

ز)  وسواس الترتيب: فلا يكل ولا يمل من ترتيب أغراضه بشكل متساوٍ ومتناسق ومتماثل، وينزعج جدا إذا تغير أي شيء مما حوله، ولا يقبل أي تغيير في النظام. ويمكن أن يشمل الترتيب أمورا تافهة مثل الشعيرات الموجودة في أطراف السجاد المفروش على الأرض.

ح)  الوسواس الجنسي: وله صور مختلفة، مثل أن ينظر الشخص –قهرا- إلى أماكن الأعضاء الجنسية عند الآخرين الذين يلقاهم في الشارع، ولا يفعل ذلك لشهوة، لكنه لا يستطيع صرف نظره عن هذه الأماكن. وكذلك تصور مشهد الممارسة الجنسية في الذهن –بدون شهوة- ويظل المشهد عالقا لا يستطيع التغافل أو التشتت عنه. والخوف من أن يعتدي المريض جنسيا على امرأة أو طفل، وهو لا يقصد ولا يريد فعل ذلك، لكنه الخوف من ذلك فقط. أو التصور بأنه شاذ جنسيا (يعاني من ميول مثلية جنسية مثلا)، وهو في الواقع ليس كذلك أبدا.

ط)  وسواس الإيذاء: فتشعر الأم مثلا أنها سوف تضر أبناءها بشكل أو آخر، على الرغم أنها تحبهم جدا، ولا تتصور فعل ذلك معهم. ويمكن أن يكون هناك وسواس في صورة تصورات: أن الشخص سوف يقتل أشخاصا آخرين بسكين أو مسدس، على الرغم من أنه ليس من طبعه العنف، ولا يريد أن يفعل ذلك أبدا ولا يتصور أن يصدر هذا الفعل منه.

3- الفرق بين الوسواس القهري والوسواس الشيطاني

من خلال ما بيناه، فيمكن عمل مقارنة بين الوسواسين مبنية على المفاهيم الدينية المعروفة.

 

الوسواس القهري

الوسواس الشيطاني

نسبة حدوثه

2-3 % من البشر يصابون بالمرض

كل البشر

مرحلة البداية

في أي مرحلة عمرية، خاصة في المراهقة.

منذ الولادة، وينشط أكثر مع البلوغ وبدء التكليف وما بعده

ملكية الأفكار

يشعر بأنها أفكار دخيلة على الشخص وليست منه.

ليست دخيلة، ويشعر أنها قريبة من النفس.

المشاعر المصاحبة

مشاعر رفض وقلق شديد.

مشاعر لذة عند ارتباط الوسوسة بالشهوة، ومشاعر قلق بسيط عند ارتباطها بالشبهة.

منطقية الفكرة

غير منطقية

أغلبها منطقية، ولها تفسير أو مبرر فكري.

تزيد عند

القلقين والموسوسين، والمترددين، وأصحاب الشخصيات الهشة، وقليلي الثقة بالنفس.

البعيدين عن الله وضعاف الإيمان، وأحيانًا تزيد عند أقوياء الإيمان، نظرًا لشدة حرب الشيطان لهم.

العلاج

الدواء والعلاجات السلوكية والمعرفية.

القرب من الله، ومخالفة أوامر الشيطان، وتزكية النفس الأمارة بالسوء.

نهايته

 

ينتهي مع نهاية العلاج.

ينتهي مع نهاية الحياة، فهو رحلة مجاهدة ما دام الإنسان حيًا.

الثقافة المجتمعية عنه

مستغرب، وغير مفهوم بشكل عام

مفهوم ومقبول وجوده اجتماعيا، كجزء من التحدي بين الإنسان والشيطان

وجود التفهم والدعم لمن يعاني

قليل جدا

متوفر بشكل كبير.

 

 

4 - الوسواس القهري في كلام علماء المسلمين

عرف علماء المسلمين الوسواس القهري وميزوه عن الشك العارض، فسماه المالكية الشك المُسْتَنْكِح، ومعنى المستنكِح: أنه الذي يغلب الإنسان، فلا يمكنه دفعه.

قال الشيخ محمد عليش رحمه الله تعالى: "واجبه –أي من واجبات الغسل– (دلك): أي إمرار عضو أو غيره على المغسول ...ويكفي فيه: غلبة الظن، على الصواب؛ فإنها كافية في الإيصال الواجب بالإجماع، ولا تشترط غلبة الظن في حق مستنكح الشك، لعجزه عنها، فيكفيه الشك فيه، ويجب عليه اللهو عنه، ولا دواء له إلا هذا" انتهى [10].

وتكلم عنه ابن قدامة وابن الجوزي وابن القيم، وقدموا بعض الطرق المعرفية للتعامل معه، إلا أن كلامهم قد احتوى ذمًا للموسوسين، وهو الذم الذي قد يثقل على بعض مرضى الوسواس القهري عند قراءته اليوم، وبلا شك أن لهذا القدر من الذم صلة بعدم اتضاح الطبيعة الكاملة للمرض، والجزء غير الاختياري منه، وفي الوقت نفسه تبقى هناك فائدة لبعض هذا الذم فيما يتعلق بوجود مسؤولية لمريض الوسواس، فيما يتعلق بضرورة سلوكه طريق المعالجة من المرض.

نماذج من نصوص علماء المسلمين عن الوسواس القهري:

قال أبو محمد الجويني رحمه الله  في كتابه "التبصرة" (ص/127-128) في ترتيب أبواب للتمييز بين الاحتياط والوسوسة: "ومن هؤلاء الطبقة الذين يعتريهم الوسواس: مَن يركب رأسه ويجاوز حدود هذه الأصول، ولقد رأيت منهم من يكرر تحريمته لمكتوبته (يعني تكبيرة الإحرام لصلاته) حتى يشرف وقتها على الانقضاء، أو تفوته الجمعة مع الإمام أو ركعة منها... وإذا تبرز لقضاء حاجته تأهب خادمه لجمع الحجر والمدر(قطع الطين اليابس) فيعد منه شيئا كثيرا، وإذا تعاطى الماء أرف وأراق منه قلة أو قلالا".

وقد قال محقق الكتاب د. محمد السديس في مقدمة التحقيق (ص18): "ومما نلحظه من موضوع كتاب الإمام الجويني، ومن مقدمة الكتاب وخطبته، أن الاضطرابات النفسية من وسوسة ونحوها كثرت في هذه الأعصار جدا، حتى اضطر إمامنا أن يصنف فيها مصنفا مستقلا".

وذكر ابن الجوزي رحمه الله في كتابه "تلبيس إبليس" (ص 131 وما بعدها) عن دخول الشيطان على الناس في الطهارة: "من ذلك أنه يأمرهم بطول المكث في الخلاء وذلك يؤذي الكبد... ومنهم من يقوم فيمشي ويتنحنح ويرفع قدما ويحط أخرى، وعنده أنه يستنقي بهذا، وكلما زاد في هذا نزل البول" انتهى، بتصرف يسير.

يقصد من يعاني من وسواس أنه لم يُنْزل كل ما لديه من بول، فيمشي بخطوات كبيرة ليُنزل بقية البول.

وقال في الوضوء والصلاة: "منهم من يُلَبَّس عليه في النية، فتراه يقول أرفع الحدث ثم يقول أستبيح الصلاة ثم يعيد فيقول أرفع الحدث. ومنهم من يلبس عليه بالنظر في الماء المتوضأ به فيقول من أين لك أنه طاهر ويقدر له فيه كل احتمال بعيد. ومنهم من يلبّس عليه بكثرة استعمال الماء، وربما أطال الوضوء ففات وقت الصلاة، أو فات أوله وهو الفضيلة، أو فاتته الجماعة. ومن ذلك تلبيسه عليهم في الثياب فترى أحدهم يغسل الثوب الطاهر مرارا، وربما لمسه مسلم فيغسله، ومنهم من يغسل ثيابه في دجلة، لا يرى غسلها في البيت يجزئ، ومنهم من يدليها في البئر". - يعني أن المصاب بذلك لا يرى أن غسل الملابس في البيت كاف لطهارته، ولا بد أن يغسلها في النهر أو البئر.

ثم قال: "ومن الموسوسين من يقطر عليه قطرة ماء، فيغسل الثوب كله وربما تأخر لذلك عن صلاة الجماعة ومنهم من ترك الصلاة جماعة لأجل مطر يسير يخاف أن ينتضح عليه. ومن ذلك تلبيسه عليهم في نية الصلاة، فمنهم من يقول أصلي صلاة كذا ثم يعيد هذا ظنا منه أنه قد نقض النية، ومنهم من يكبر ثم ينقض ثم يكبر ثم ينقض، فإذا ركع الإمام كبر الموسوس وركع معه.

واعلم أن الوسوسة في نية الصلاة سببها خبل في العقل وجهل بالشرع".

وقد ذكر حكاية عن ابن عقيل رحمه الله: "أن رجلا لقيه فقال: إني أغسل العضو وأقول ما غسلته، وأكبر وأقول ما كبرت. فقال له ابن عقيل: دع الصلاة فإنها ما تجب عليك. فقال قوم لابن عقيل: كيف تقول هذا؟ فقال لهم: قال النبي صلى الله عليه وسلم: رُفع القلم عن المجنون حتى يفيق، ومن يكبر ويقول ما كبرت فليس بعاقل والمجنون لا تجب عليه الصلاة".

وقال ابن قدامة رحمه الله في كتابه "ذم الموسوسين والتحذير من الوسوسة" (ص4 وما بعدها): "ثم إن طائفة من الموسوسين قد تحقق منهم طاعة الشيطان، حتى اتصفوا بوسوسته وقبلوا قوله وأطاعوه، ورغبوا عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء الرسول عليه الصلاة والسلام، أو صلى كصلاته، فوضوؤه باطل وصلاته غير صحيحة. فهو أولا يغسل عضوه غسلا يشاهده ببصره، ويكبر ويقرأ شيئا بلسانه تسمعه أذناه ويعلمه قلبه، (أي: ثم يشك هل فعل ذلك أم لا؟)، وكذلك يشككه في نيته وقصده التي يعلمها من نفسه يقينا، بل يعلمها غيره منه بقرائن أحواله، ومع ذلك يقبل قول إبليس في أنه ما نوى الصلاة ولا أرادها، مكابرة منه لعيانه وجحدا ليقين نفسه، حتى تراه مترددا متحيرا... كل ذلك مبالغة في طاعة إبليس وقبولا من وسوسته. ثم إنه يقبل قوله في تعذيب نفسه، ويطيعه في الإضرار بجسده، تارة بالغوص في الماء البارد، وتارة بكثرة استعماله وإطالة العرك (أي: التدليك). وربما فتح عينيه في الماء البارد وغسل داخلهما حتى يضر ببصره، وربما أفضى إلى كشف عورته للناس. وربما صار إلى حال يسخر منه الصبيان ويستهزئ به من يراه. وربما شغله بوسوسته في النية حتى تفوته التكبيرة الأولى، وربما فوّت عليه ركعة أو أكثر، وربما فوّت عليه الوقت" أهـ، بتصرف يسير.

ثم ذكر فصلا في ترديد كلمات من الفاتحة أو التشهد أو التكبير أو تكرير حرف مثل تكرير بعض الكلمة كقولك في التحيات: ات ات التحيات، وفي السلام: اس اس السلام، وفي التكبير: أكككبر، وفي إياك: إياككك... فقد أفضت طاعة الشيطان إلى فساد صلاته. (انظر: ص11).

إلى أن قال: "وكثير من الموسوسين العالمين بالشريعة يعترفون بخطئهم، ويفتون بخلاف ما يفعلون، ويقولون لا تقتدوا بنا. وهذا عجب!" (انظر: ص20).

والواقع أن تعجبه يرجع إلى أنه لا يرى الوسواس مرضا، لكن يراه اتباعا لوساوس الشيطان، ولذلك تعجب من عدم قدرة من يقع في الوسواس على أن يوقفه، وهذا عين الوسواس القهري المرضي.

وقال ابن القيم رحمه الله: "ومن كيده (يعني الشيطان) الذي بلغ به من الجهال ما بلغ: الوسواس في أمر الطهارة والصلاة عند النية... حتى إن أحدهم ليرى أنه إذا توضأ وضوء الرسول صلى الله عليه وسلم أو اغتسل كاغتساله، لم يطهر ولم يرتفع حدثه. وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يغتسل هو وعائشة رضي الله عنها من قصعة فيها أثر العجين، ولو رأى الموسوس من يفعل هذا لأنكر عليه غاية الإنكار وقال: ما يكفي هذا القدر لغُسل اثنين؟" انتهى، من "مكائد الشياطين في الوسوسة وذم الموسوسين" (ص/ 15 وما بعدها) بتصرف.

ثم ذكر دفاع الموسوسين عن وسوستهم بحجج مختلفة فقال: "قال أصحاب الوسواس: إنما حملنا على ذلك الاحتياط لديننا، والعمل بقوله صلى الله عليه وسلم دع ما يريبك إلى ما لا يريبك... وهل هذا إلا خير من التسهيل والاسترسال؟، حتى لا يبالي العبد بدينه، ولا يحتاط له، بل يُسهل الأشياء ويُمشي حالها، ولا يبالي كيف توضأ!... وجماع ما ينكرونه علينا احتياط في فعل مأمور أو في اجتناب محظور. وذلك خير وأحسن عاقبة من التهاون بهذين، فإنه يُفضي غالبا إلى النقص من الواجب والدخول في المحرم. وإذا وازنا بين هذه المفسدة، ومفسدة الوسواس؛ كانت مفسدة الوسواس أخف، هذا إن ساعدناكم على تسميته وسواسا، وإنما نسميه احتياطا واستظهارا»، ثم رد على كلامهم ردا طويلا (انظر: ص 18-24).

وذكر ابن القيم قصة رجل كان يكرر عقد النية مرات عديدة، فيشق على المأمومين مشقة كبيرة، فعرض له أن حلف بالطلاق أنه لا يزيد على تلك المرة، فلم يدعه إبليس حتى زاد ففرق بينه وبين امرأته. (انظر: ص27).

 ثم ذكر قول أبي حامد الغزالي: الوسوسة سببها إما جهل بالشرع وإما خبل بالعقل، وكلاهما من أعظم النقائض والعيوب. (انظر: ص33).

وقد ذكر أن الموسوسين في البول يفعلون أحد عشر فعلا للتأكد من خروج كل البول منه: "السلت، والنتر، والنحنحة، والمشي، والقفز، والحبل، والتفقد، والوجور، والحشو، والعصابة، والدرجة" (انظر: ص 40).

وبعد سرد هذه النصوص نؤكد مرة أخرى: على أن ما فيها من ذم الموسوسين يتوجه لمن يدافعون عن وسواسهم، ويسبغون المشروعية والمعقولية على تصرفاتهم الوسواسية، كما أن جزءًا منه نابع من عدم توفر المعلومات الكاملة لعلمائنا حول المرض، وهذا الذم يستفاد منه أيضًا وجود مسؤولية منوطة بمريض الوسواس القهري؛ وهي أن يسعى للتداوي من مرضه.

  ثالثًا: نصائح وإرشادات وقواعد في فهم مرض الوسواس القهري والتعامل معه

 1) القاعدة الأساسية أن الخطرات والوساوس بمختلف أنواعها؛ طروءها على الإنسان قهري لا حيلة له فيه، وهو بالتالي غير مؤاخذ على هذا الطروء، وإنما يطلب منه أن يقدم استجابة مناسبة لهذا الوسواس؛ عن طريق الاستعاذة، كما في الوسواس الشيطاني، وعن طريق الانضباط في سلوك طرق المعالجة الدوائية وغير الدوائية في الوسواس القهري.

2) أهمية سلوك طريق العلاج الدوائي إن رآه الطبيب مناسبًا، ربما يكون من أكثر الأمور التي يخاف منها الناس في موضوع طلب العلاج هو الدواء النفسي، وذلك لارتباطه بمعتقدات كثيرة أغلبها خاطئة؛ مثل أنه يسبب تعودا وإدمانا، وأن ضرره أكثر من نفعه؛ وأنه يسبب آثارا كارثية على جسم الإنسان، الخ. وكل هذا غير صحيح، فهو لا يسبب تعودا ولا ضرره أكثر من نفعه، وليست آثاره السلبية بكارثية، أو لدرجة تمثل خطرا على أعضاء الإنسان أو حياته. فالدواء صُنع من أجل إفادة المرضى، وليس ضررهم، ولو كان ضرر الدواء أكثر من نفعه، لتم منع استخدامه في دول العالم المختلفة، ولأوقفته وزارات الصحة والجهات المعنية على الفور، ولتوقف الأطباء الذين يتحملون المسؤولية الطبية والقانونية عن وصفه للمرضى.

     وبالتجارب العلمية المثبتة عمليا على ملايين الناس على مدار عقود من الزمن، فإن الدواء ينفع كثيرا في علاج مرض الوسواس.

3) هناك برامج علاجية مبنية على مدارس العلاج النفسي غير الدوائي، مثل العلاج المعرفي السلوكي، والعلاج الجدلي السلوكي، والعلاج بالقبول والالتزام؛ فيرجع المريض إلى طبيبه ليختار له المناسب لحالته.

4)  استخدام التوكيدات اللفظية مهم في العلاج، فمثلًا: كرر مع نفسك قول: أني لا أظن في الله أفكارا سيئة / أنا لا أعتقد أن الوضوء قد فسد/ أن صلاتي صحيحة / أن يدي نظيفة....

5)  اكتب ذلك عشر مرات يوميا.

6)  كرر مع نفسك أن ما تعانيه هي أعراض مرض، وليست من نفسك، ولا علاقة لها بمستوى إيمانك، اذكره في نفسك واكتبه عشر مرات يوميا إن كنت تعاني من هذه الشبهة.

7)  تخيل معاناة تكرار الأشياء، ثم تخيل نفسك أنك لا تكرر. عش دور السليم المعافى حتى لو تخيلا، حتى تتبناه ثم تعيشه واقعا.

8)  امنع نفسك بكل الطرق من تكرار نفس الفعل مرة أخرى، انشغل بأمر آخر بسرعة حتى لا تكون عُرضة لقهر الأفكار الوسواسية. اعلم أن ذلك سيسبب توترا أثناء المقاومة، خاصة في أولها، لكنك إذا قاومت ضعُف الوسواس، وإذا استسلمت له زاد.

9)  عند مقاومة الوساوس، فأنت تقاومها كلها مع بعض قدر المستطاع. لا تقاوم «بالتقسيط»، فالوساوس مثيرة لأنواعها. ركز على الأقوى، لكن هذا لا يمنعك من العمل على التخلص منها كلها.

10) لا تضيع وقتا في التفكير في سبب حدوث الوسواس، فلن تصل إلى سبب محدد فتقول هذا هو السبب، انشغل بالحلول مباشرة.

11) الجدال مع الفكرة يزيدها، فلا تفكر في الوسواس ولا في الضد، فكر في شيء ثالث مختلف.

12) إلغاء النظام الخاص الذي فرضته على نفسك وعلى من حولك (نظام خاص للنظافة مثلا)، وواجه مباشرة ما تحذره، فانغمس فيما تهرب منه، ونم على الفراش الذي تظن نجاسته واصبر على هذا حتى ينكسر الحاجز الوسواسي.

13) اطلب المساعدة ممن حولك في كسر النظام الخاص بك، ومواجهة ما تخاف منه (طلب من الأهل أن يتابعوه أثناء غسيل اليدين وتوقيفه عند المدى الطبيعي).

14) لا يوجد علاج بدون تعب ومقاومة. إذا لم تجتهد في المقاومة والصد فربما لا يزول عنك الوسواس بشكل كلي.

15) حافظ على التقدم واستمر في المواجهة، حتى لو أصابك الفتور أو الانتكاس في أي وقت من الأوقات.

16) اليقين لا يزول بالشك، فالأمر المؤكد لا يتغير بالشكوك أو الظنون التي تخطر في ذهنك، خاصة وأنت تعلم أنك تعاني من مشكلة وسوسة، ولا بد أن تخبر نفسك دائمًا بهذا: أنا أعاني من مشكلة وسوسة؛ فشكوكي لا قيمة لها.

17) الإنسان العادي الذي لا يعاني من وسوسة، لابد أن يبني تصرفه على علم، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن شك في صدور الريح منه: (لا يَنْفَتِلْ -أوْ لا يَنْصَرِفْ- حتَّى يَسْمع صَوْتًا أوْ يَجِدَ رِيحًا) أخرجه البخاري(137)،  فما بالنا بشخص يعلم أنه مصاب بالوسوسة؛ كيف يستسلم لخطرات لا علم معها؟

18) لك الأخذ بأيسر الأقوال الفقهية في المسائل الخلافية خلافا معتبرًا، بعد مراجعة مُفْتٍ تشرح له حالك، والأخذ بأشد الأقوال أو أكثرها حيطة: هو أولا ليس ورعا منك، ولكنه من نتاج وسواسك. وثانيا: هو يزيد مشكلتك ويؤخر علاجك.

19) لا تستسلم لشعور الذنب والخزي ولوم النفس والحط منها، فما أنت فيه ليس ذنبا وإنما هو مرض لا يد لك فيه ولا سلطان لك عليه.

20) الأصل في الأشياء الإباحة إلا لو جاء نص واضح بالتحريم، ولا يمكننا الحكم بنجاسة شيء من غير وجود دليل واضح.

21) من مقاصد الشريعة الإسلامية التيسير، خاصة لأصحاب الأعذار. ولا يعني هذا إلغاء التكليف أو العبادة، لكن المقصود أن تؤتى الأركان كاملة، بأيسر السبل.

22) النية لا تحتاج إلى النطق بها ولا إلى تكلف استحضارها. فمجرد كونك تحركت لفعل شيء، فهذا معناه: أنك قد عقدت النية لعمله، وإلا لما توجهت ببدنك إلى فعله.

23) لا تنشغل بسؤال: هل تم قبول عملي عند الله أم لا؟ فقط افعل ما عليك، ولست مطالبا بالانشغال بما بعد ذلك.

24) الإنسان غير مؤاخذ بما حدثته به نفسه، وإنما بما اعتقده، مقتنعا به، عاقدًا عليه قلبه، أو بما صدر منه من أفعال اختيارية.

25) لا تحتاج إلى تجديد إسلامك ولا إيمانك، ما دمت لم تعتقد - باختيارك وقناعتك التامة - اعتقادا مخالفا للدين.

26) الصبر على ابتلاء المرض له ثواب عند الله. كثيرا ما يشعر الموسوس أنه مذنب وواقع في غضب الله بأخطائه، وهو في واقع الأمر وبصبره على البلاء: تزداد حسناته وترتفع درجته عند الله –بإذن الله-.

27) لا تُحسب السيئات إلا بعد فعلها من الشخص عامدا (غير ناس أو متوهم)، مختارا (غير مكره)، عالما بحرمة الفعل (غير جاهل). ولا يحاسب الإنسان على الأفكار القهرية أو المشاعر، وفي الحديث الصحيح: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تتكلم  أخرجه البخاري (2528).

28) في الحديث: ومن هم بسيئة فلم يعملها، كتبها الله له عنده حسنة كاملة أخرجه البخاري(6491)، فتصور أن شخصا ينوي بإرادته الحرة عمل سيئة، ولم يعملها؛ فإن الله يكتبها له حسنة، فما بالك بشخص تحدث له أفكار قهرية، هو لا يريدها؛ تحثه على فعل بعض المحرمات وهو يقاومها ولا يفعلها، فكيف يكون أجره؟

(29) تكرار السؤال الفقهي عن المسائل الوسواسية: يغذي المرض ولا يشفيه، هو يصنع عملية تهدئة مؤقتة، لكن سرعان ما تعود الهجمة الوسواسية مرة أخرى، فالسؤال الفقهي وتلقي الإجابة: هي عملية مغذية للدائرة الوسواسية، ولأجل ذلك لما عرض للصحابة وسواسُ: مَن خلقَ اللهَ؟ لم يستجب له رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواب عقدي عن الشبهة، لأنها ليست شبهة، بقدر ما هي خَطْرَةٌ وسواسية، التعامل معها بالأجوبة المفصلة يغذيها، بل كان الجواب مجملًا، مع أمر بالانتهاء. والأمر في الوسواس: يشبه الحكة؛ كلما حككت موضعها، ازدادت شهوة الحك.

(30) الإعراض هو كلمة السر في التعامل مع الوسواس القهري.

قال الدردير رحمه الله في "الشرح الصغير" (1/170): "(وَإِنْ شَكَّ غَيْرُ مُسْتَنْكِحٍ فِي مَحَلٍّ غَسَلَهُ): إذَا شَكَّ غَيْرُ الْمُسْتَنْكِحِ فِي مَحَلٍّ مِنْ بَدَنِهِ، هَلْ أَصَابَهُ الْمَاءُ، وَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُهُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهِ ، وَدَلْكِهِ.

وَأَمَّا الْمُسْتَنْكِحُ -وَهُوَ الَّذِي يَعْتَرِيهِ الشَّكُّ كَثِيرًا- فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، إذْ تَتَبُّعُ الْوَسْوَاسِ يُفْسِدُ الدِّينَ مِنْ أَصْلِهِ، نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهُ".

ونحن نعلم أن الإعراض ليس بمتيسر دائمًا، وأن ضغط المرض قد يكون أقوى منه، لكن المقصود أن المريض يستعين بالأسباب حتى يصل لنقطة الإعراض هذه.

رابعًا: نماذج مقترحة من تصرفات مساعدة الذات التي يمكن أن يتبعها المريض في بعض الوساوس كسلوكيات داعمة للعلاج المنهجي:

 في علاج وسواس الأفكار الدينية عن الله:

أولًا: من الموسوسين من تأتيه أفكار سيئة عن الله أو الدين أو الرسول صلى الله عليه وسلم أو القرآن، وهو يشعر أنه مسؤول ومحاسب عن هذه الأفكار، لكن هذا غير صحيح. فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الله تجاوز لأمتي عما توسوس به صدورها، ما لم تعمل به، أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه "صحيح ابن ماجه" (1676). وهذا نص واضح أنك أيها المريض غير مسؤول عن أي فكرة بداخلك، إلا لو حولتها مختارا وبإرادتك الكاملة إلى فعل أو قول.

وبقدر ما يشعر به المريض من رهبة وخوف من أنه وقع في حق الله ورسوله بسب ونحو ذلك، بقدر ما ينبغي له الفهم أنه مقهور على هذا، لا يد له فيه، وما دام قلبه مطمئنا بالإيمان، فإن هذه الوساوس من قبيل الإكراه والقهر: لا يؤاخذه الله بها. قال الله تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106].

ثانيًا: هناك أحاديث أرشد فيها النبي صلى الله عليه وسلم من جاءته وساوس في الله كيف يتصرف عند حدوثها:

1)  لا يزال الناس يتساءلون، حتى يقال هذا: خلق الله الخلق؛ فمن خلق الله؟ فمن وجد من ذلك شيئا فليقل: آمنت بالله رواه مسلم (134).

2)  يوشك الناس يتساءلون، حتى يقول قائلهم: هذا الله خلق الخلق فمن خلق الله؟ فإذا قالوا ذلك فقولوا: الله أحد، الله الصمد، لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، ثم ليتفل عن يساره ثلاثا، وليستعذ من الشيطان صحيح الجامع" (8182).

3)  يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا، من خلق كذا، حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته أخرجه البخاري (3276)، ومسلم (134).

يستفاد من الأحاديث أن من جاءته تلك الوساوس عليه أن:

1)  يقول: آمنت بالله.

2)  يقرأ سورة الإخلاص.

3)  يتفل عن يساره ثلاثا (يبصق بدون لُعاب).

4)  ينتهي عن الوسوسة (يتوقف تماما).

في علاج وسواس الزيادة في مدة الوضوء والغسل:

أولًا: هناك أحاديث وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عن الإسراف في الماء، مثل حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بسعد وهو يتوضأ فقال: (ما هذا السرف؟) قال: أفي الوضوء إسرافٌ؟ قال: (نعم وإن كنت على نهرٍ جارٍ)  "السلسة الصحيحة" (3292).

ثانيًا: وردت أحاديث حددت الكم المشروع من المياه الذي يستخدم في الوضوء والغسل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يُجزي من الوضوء المد، ومن الجنابة صاعٌ "السلسلة الصحيحة" (4/644).

وبنفس المعنى: رجلا سأل عند جابر بن عبد الله عن الغسل؟ فقال: (يكفيك صاعٌ)، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرا" أخرجه البخاري (252).

المُدُّ يساوي حوالي ثلثي اللتر (687 مللي لتر)، أو ما يساوي تقريبا زجاجة مياه صغيرة، والصاع يساوي 2.75 لتر فهو زجاجة ونصف من الزجاجات الكبيرة من المياه (الواحدة تعادل لتر ونصف).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه توضأ فأتى بماءٍ في إناءٍ قدر ثلثي المد أخرجه النسائي(1/58)، أو ما يساوي حوالي ثلثي الزجاجة الصغيرة [11].

كما روى أبو داود (135)، والنسائي (140)، وأحمد (6684) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُهُ عَنِ الْوُضُوءِ، فَأَرَاهُ الْوُضُوءَ ثَلَاثًا ثَلَاثًا، ثُمَّ قَالَ: (هَكَذَا الْوُضُوءُ، فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ) .

قال النووي رحمه الله: "أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى كَرَاهَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ، وَالْمُرَادُ بِالثَّلَاثِ الْمُسْتَوْعِبَةِ لِلْعُضْوِ، وَأَمَّا إِذَا لَمْ تَسْتَوْعِبِ الْعُضْوَ إِلَّا بِغَرْفَتَيْنِ، فَهِيَ غَسْلَةٌ وَاحِدَةٌ" انتهى [12].

ومن هذه الأحاديث نتعلم فوائد:

1)  الإسراف في استخدام الماء منهي عنه، ولو كان هذا الماء يستخدم لعبادة هامة مثل الوضوء للصلاة، ولو كان الماء في نهر جارٍ، فيعود الماء مرة أخرى للنهر (أي لا فاقدَ فيه).

2)  أن النبي صلى الله عليه وسلم الذي علمنا الوضوء، علمنا مقدار المياه المستخدمة للوضوء، وأن من زاد عن هذا الحد فقد أساء وظلم. وهذا تحذير خطير.

3)  أن بعض التابعين قد استشكل كيف يمكن أن يكون هذا المقدار كافيا، وكان الرد أنه كان كافيا لخير البشر عليه الصلاة والسلام، فلا حجة لمن يقول إنه يشعر أن الماء لم يكفه للوضوء.

في علاج الوسواس الخاص بالاستنجاء:

يشتكي بعض الموسوسين أنه يعاني أثناء الاستنجاء (التطهر بعد البول)، وكثير منهم يمكثون وقتا طويلا للتأكد من عدم نزول أي قطرات بول بعد الانتهاء من عملية التبول، وقد سبق معنا ما ذكره العلماء قبل قرون من وجود هذا الوسواس. وهذه المسألة تجدها في فتاوى الطهارة بالسؤال عمّن أصابه سلس البول، ويسميها بعض الفقهاء بمسألة "صاحب القطرة والقطرتين". وهنا لا بد من الأخذ في الاعتبار عدة نقاط:

1)  هذه الوسوسة أكثر في الذكور من الإناث، وهي مرتبطة بنطاق رؤية العين لكل منهما، بسبب اختلاف الطبيعة التشريحية. فالعضو المسؤول عن التبول عند الذكور يكون خارج الجسد، وبالتالي يمكن متابعته بشكل أسهل أثناء التبول والاستنجاء، بينما الأنثى يصعب عليها أن ترى مخرج البول مباشرة، ومن تعاني من الوسواس عادة، ما يكون خاصا بإفرازاتها المهبلية (أو الدم) الخارجة من الجسم فتراه بعينها في الملابس.

2)  هناك سبب فيزيائي لنزول قطرات قليلة بعد تفريغ أي سائل من خلال مجرى ضيق، فإن خرطوم المياه مثلا تعلق على جدرانه الداخلية بعض ذرات الماء بعد استخدامه، ثم تجتمع بعضها ببعض مع الوقت لتشكل قطرة ثم تنزل، وهذا ما يحدث في العضو الذكري. وبحكم أن طول مسار البول في الذكور أكبر من الإناث بخمسة أضعاف! –في الرجال البالغين يكون 20 سم بينما في النساء هو 4 سم فقط-، فإن تساقط ذرات البول بعد التبول عند الذكور أكثر، وحدوث هذا الوسواس لديهم أشهر.

3)  يشتكي بعض الموسوسين أن ما ينزل منه هو مني أو مذي أو ودي، وحقيقة الأمر أن ما ينزل عادة هي قطرات بول، إلا في حالات مرضية مرضا عضويا. في الحالة الطبيعية فإن المني أو المذي (وهو سائل شفاف لزج ينزل بعد الإثارة الجنسية، وهو في الرجل والمرأة): لا يمكن أن ينزلا بعد التبول، لأنهما مرتبطان بالإثارة الجنسية – والتي يحدث خلالها تغيرات فسيولوجية لدى الجنسين- ولا يكون ذلك ساعة التبول، ولو نزل أثناءه فهي حالة مرضية عضوية. أما الودي (وهو سائل أبيض غير لزج)، فينزل في حالات التهابات البروستاتا عند الرجال، بالتالي فهي مرض عضوي يعالج عند أطباء الذكورة والتناسل. بالتالي فما ينزل ويثير الوسواس عند أغلب المرضى هي قطرات بول، إلا في حالات مرضية لها علاج عضوي.

4)  أن ممارسة الطرق المختلفة للضغط على المثانة لتفريغ البول، لن يُنهي نزوله، لأنه - وببساطة - : الكليتان تعملان طوال الوقت، وتفرزان البول في شكل قطرات يسيرة، تتجمع في المثانة إلى أن تمتلئ، فيحدث شعور الرغبة في التبول، ثم يعطي الشخص –إراديا- الأمر لأن ينفتح لديه محبس البول، فينزل. في وضع الجلوس في الحمام يكون الشخص باستمرار سامحا لمحبس البول بالفتح، بالتالي كل قطرة تنشأ في الكلى تنزل مباشرة منه للخارج، فهي عملية مستمرة لا تتوقف. بالتالي فهذه الأفعال ليس منها أي جدوى، بل هي تثبت الوسواس أكثر فأكثر، بحجة أن الموسوس كل دقيقة يجد قطرة جديدة تنزل منه فعليه التحرز أكثر.

هناك حديث نبوي يضع الحل العلمي لهذه المشكلة بشكل مباشر وهو سنة مهجورة سواء عند المرضى أو الصحاح من الناس، وهو نضح المياة (رشها) على الملابس من خارجها على منطقة الفرج بعد الوضوء (أو كما ذهب بعض العلماء أن النضح (الرش) الوارد في الحديث المقصود به أن يكون على الفرج نفسه، وسواء كان المراد الفرج أو الملابس، ففي الحالتين فإن فعل النضح مطلوب ومغزاه مفهوم)، فقد ورد في الحديث: أن الحكم بن سفيان الثقفي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، ثم أخذ كفا من ماءٍ فنضح به فرجه  "صحيح سنن ابن ماجة" (379) واللفظ له، "صحيح سنن النسائي" (134).

قال العلماء في شرح الحديث: "أي رشه عليه، لنفي الوسوسة وتعليم الأمة" انتهى[13].

فانظر إلى هذه السنة؛ كم هي بسيطة الفعل، شديدة الأثر في منع الوسواس، فالموسوس كلما أحس بللًا، سيقول هذا من أثر النضح؛ فيساعد هذا على اندفاع الوسوسة.

وأما في حكم غسل الملابس التي بها القدر اليسير من النجاسة، فهناك خلاف بين العلماء فيها وفي مقدار هذا القدر اليسير، فإذا كانت النجاسة يسيرة، كنقطة بول أو ودي، فيرى الشافعية أنه لا يلزم غسلها، ووافقهم المالكية فيما إذا عسر الاحتراز منها، كأثر الذباب من العذرة والبول، وذهب الحنفية إلى أن ما كان من النجاسة المغلظة، وهي ما ثبت بدليل مقطوع به كالدم والبول والخمر، فإنه يعفى عن قدر الدرهم وما دونه. وخالفهم عدد من العلماء الآخرين.

 فللمريض أن يأخذ بالأيسر من الأقوال في المسألة، فهي من الخلاف السائغ المعتبر، وهو من أصحاب الأعذار في المسألة [14].

في علاج الوسواس الخاص باستحضار النية، خاصة للصلاة:

الموسوس في النية يشعر أنه لم يستحضر النية للصلاة، فيمكث لساعات يستحضر النية ويجددها. وذلك بسبب أنه لم يفهم معنى النية واستحضارها. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى أخرجه البخاري(3429)، ويقول: ولا عمل إلا بنية "السلسلة الصحيحة" (2415).

والمعنى: أن النية لا بد أن تكون في أي عمل كان، فلا يمكن أن يكون هناك عمل إلا بنية. فلا يمكن أن يكون الرجل قد قام للصلاة، وبدأ في الصلاة، وهو لا ينوي الصلاة، هذا مستحيل شرعا وعقلا.

فالمراد من الحديث: هو إخلاص النية لله؛ فهو يصلي لله، وليس رياء أو خوفا، بدليل الجزء الأخير من الحديث الأول: فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها، أو إلى امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ؛ فالهجرة هي الفعل، ومن هاجر فلا بد وأنه قد كانت معه نية الهجرة، لكن الأهم من ذلك أن تكون الهجرة لله وحده. فالمصلي إذا قام لصلاة الظهر مثلا فهو لديه النية أنه قام يصلي لله صلاة الظهر الفرضية حتما.

في علاج الوسواس الخاص بتكبيرة الإحرام:

ذكرنا قبل ذلك أن العلماء السابقين قد ذكروا في كتبهم الموسوسين في تكبيرة الإحرام فمنهم من يكررها أكثر من مرة، ظنا منه أنه لم يأت بها صحيحة، ومنهم من يقطع أثناء ذكرها فيقول «الله أكككبر»، وأصل المشكلة يأتي من مشكلة استحضار النية التي ذكرناها سابقا، وفي تصور أنه إذا رفع يديه خطأ أو قالها خطأ فإنه لم يدخل في الصلاة.

أما بالنسبة لرفع اليدين في تكبيرة الإحرام فإنه صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه تارة مع التكبير، وأحيانا بعده، وأحيانا قبله. وكان يرفعها في مستوى كتفيه أحيانا وإلى مستوى أذنيه أحيانا [15].

 فالموضوع فيه سعة، وإذا أتى الإنسان بأي صورة منها فهو مقبول.

أما لفظة التكبير فإن كل ما على المصلي ألا يصب تركيزه على كيفية إخراج اللفظ، التركيز مع الأمر السهل المعتاد يجعله أصعب، فكما أنه يتكلم بالكلام المعتاد، فلا يركز في كل كلمة تخرج منه، فتكبيرة الإحرام: كلماتها من الكلام العام الذي يمكن أن يقال مباشرة.

الإشكال الأكبر الذي يقع فيه الموسوس وهو يكرر التكبير: أنه يقع في أحد خطأين: إما أنه يعتبر نفسه قد دخل في الصلاة، وبالتالي فالتكرار الذي فعله هو من الحركة الزائدة غير الضرورية ولا المشروعة في الصلاة وهي لا تجوز، أو أنه يعتبر نفسه لم يدخل في الصلاة في حين أن نيته وتكبيرته قد أدخلتاه فيها، فهو يتصرف وبشكل عادي كأنه خارج الصلاة بينما هو داخلها. وهناك من يكبر ثم يسلم من الصلاة، ويخرج منها، ويكبر مرة أخرى ليدخل فيها، فيقع في محظور آخر وهو الخروج من الصلاة بغير مبرر ولا ضرورة، وهو أمر لا يجوز.

في علاج وسواس الشك في الركعات.

جاء في "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (2/299): "والموسوس لا عِبْرَة بشكِّه، ولهذا قال الناظم:

والشكُّ بعد الفعل لا يؤثِّر .... وهكذا إذا الشكوك تكثر
فإذا كثُرت الشكوك: فهذا وسواس لا يُعتدُّ به" انتهى.

وجاء في "مطالب أولي النهى" (1/507): "وَ(لَا) يُشْرَعُ سُجُودُ السَّهْوِ (إذَا كَثُرَ) الشَّكُّ، (حَتَّى صَارَ كَوِسْوَاسٍ، فَيَطَّرِحُهُ وَكَذَا) لَوْ كَثُرَ الشَّكُّ (فِي وُضُوءٍ وَغُسْلٍ وَإِزَالَةِ نَجَاسَةٍ)، وَتَيَمُّمٍ، فَيَطَّرِحُهُ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ إلَى نَوْعٍ مِنْ الْمُكَابَرَةِ، فَيُفْضِي إلَى زِيَادَةٍ فِي الصَّلَاةِ، مَعَ تَيَقُّنِ إتْمَامِهَا، فَوَجَبَ اطِّرَاحُهُ، وَاللَّهْوُ عَنْهُ لِذَلِكَ" انتهى.

في علاج وسواس انتقاض الوضوء أثناء الصلاة:

هناك من الموسوسين من يشعر أن وضوءه قد انتقض أثناء الصلاة، وبالتالي فقد خرج من الصلاة. وعليه أن يذهب ليتوضأ ويصلي من جديد، ويستمر هذا الفعل.

وقد وردت أحاديث ترشدنا إلى التصرف الصحيح ساعتها، فقد روى عبد الله بن زيد أنه شكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرجلُ يجد في الصلاة شيئا أيقطع الصلاة؟ قال: (لا، حتى يسمع صوتا أو يجد ريحًا)  أخرجه البخاري (137). ومعناه أن المصلي إذا شعر أنه أحدث (انتقض وضوؤه) أو خرج منه ريح في الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل لنقض الحدث في الصلاة علامتين واضحتين لتحقق اليقين بحدوث انتقاض الوضوء، وهما: سماع الصوت أو شم رائحة. فإذا لم تحدث إحدى هاتين العلامتين، فلا ينصرف من صلاته ويكملها.

وقد ورد عن الكثير من الصحابة كابن عباس وابن عمر والتابعين كسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهد: النهي عن ترك الصلاة مع إحساس خروج قطرات بول، حتى قال مجاهد: "لأن أصلي وقد خرج مني شيء، أحب إلى من أن أطيع الشيطان" [16].

وسأل رجل سعيد بن المسيب فقال: إني لأجد البلل وأنا أصلي، أفأنصرف؟ فقال سعيد: "لو سال على فخذي ما انصرفت حتى أقضي صلاتي" [17].

في علاج وسواس التلفظ بالطلاق:

مثل أن يظن أنه قد تلفظ بالطلاق، وهو لم يقصد أن يطلقها. فالإنسان محاسب ويقع عليه ما تعمد فعله مختارا له، بإرادته الكاملة، ولا يحاسب الإنسان على ما توسوس به نفسه، إلا إذا تحول إلى فعل إرادي من الإنسان. فقد سبق أن ذكرنا الحديث: إن الله تجاوز لي عن أمتي ما وسوست به صدورها، ما لم تعمل أو تكلم .

والفعل أو القول هو شيء مشهود للشخص ومن حوله، فمن ظن أنه فعل شيئا أو تكلم بشيء أمام الناس، وأنكر الآخرون عليه أنه فعله أو قاله: فهو وهم منه، ولا يحاسب عليه، ولا تترتب عليه آثاره.

بل إن المبتلى بالوسواس لا يقع طلاقه، حتى لو تلفظ به، عند بعض أهل العلم، ما لم يقصد الطلاق، قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "المبتلى بالوسواس لا يقع طلاقه، حتى لو تلفظ به بلسانه، إذا لم يكن عن قصد، لأن هذا اللفظ باللسان يقع من الموسوس من غير قصد ولا إرادة، بل هو مغلق عليه، ومكره عليه لقوة الدافع، وقلة المانع، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا طلاق في إغلاق ، فلا يقع منه طلاق إذا لم يرده إرادة حقيقية بطمأنينة، فهذا الشيء الذي يكون مرغما عليه بغير قصد ولا اختيار؛ فإنه لا يقع به طلاق" انتهى [18].  

خاتمة:

نؤكد آخرا، كذلك، على أن: "المزاوجة بين الأدوية المضادة للوسواس القهري، وطرق العلاج النفسي تُشكل نجاحًا واضحًا لعلاج اضطراب الوسواس القهري، خاصة إذا استطاع المعالج والطبيب اختيار الدواء المناسب والجرعة المناسبة، والعلاج السلوكي المناسب بالأسلوب المناسب؛ لأن هناك فروقات فردية بين الناس في تقبل العلاج الدوائي، وكذلك الجرعة المناسبة لكل فرد على حده، وتقبل العلاج السلوكي والمعرفي، وما ينفع مع فرد قد لا ينفع مع الآخر" انتهى [19].

مراجع المادة:

"البندول"، دكتور محمد الشامي.

"الوسواس القهري من منظور عربي إسلامي" دكتور وائل أبو هنيدي.

"الوسواس القهري" ندا سليمان العيسى[20].

والله أعلم.

المراجع

  1. ^ "مقاييس اللغة" (6/76).
  2. ^ "لسان العرب": باب وسس، "القاموس المحيط": باب الوس.
  3. ^ انظر: "مفردات ألفاظ القرآن" للراغب الأصفهاني (ص:869).
  4. ^ انظر: "أيسر التفاسير" (ص: 1504)، "الصحاح" للجوهري (3/988).
  5. ^ انظر: "الوسواس القهري وأحكامه الفقهية"، حكيم صحراوي، (ص/11).
  6. ^ بعض الفئات مستفادة من كتاب: "العلاج النفسي والعلاج بالقرآن" (ص390، وما بعدها).
  7. ^ انظر: "معجم الصحة النفسية المعاصر"، د. رشاد موسى، (ص: 184).
  8. ^ انظر: "الدليل التشخيصي والإحصائي الخامس"، ترجمة أنور حمادي، (ص: 102).
  9. ^ انظر: "الوسواس القهري من منظور عربي وإسلامي" (ص: 102).
  10. ^ "منح الجليل" (1/127).
  11. ^ ينظر: موقع الإسلام سؤال وجواب، جواب السؤال رقم: (300117 ).
  12. ^ "شرح النووي على مسلم" (3/109).
  13. ^ "شرح سنن ابن ماجه" للسندي (1/172).
  14. ^ انظر في الأخذ بالرخصة لمريض الوسواس: كتاب: "الوسوسة رؤية طبية شرعية" (ص: 114، وما بعدها).
  15. ^ انظر: "صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم" للألباني (ص:87).
  16. ^ انظر "ذم الموسوسين" (80).
  17. ^ انظر: "شرح السنة" (1/355).
  18. ^ "فتاوى إسلامية" (3/277).
  19. ^ "الوسواس القهري"، ندا العيسى (ص: 125).
  20. ^ ولتمام الفائدة ينظر: موقع الإسلام سؤال وجواب، جواب السؤال رقم: (295203 )، ورقم: (224134 ).