نبذة عن " القياس " ، والرد على منكريه من الظاهرية

03-02-2009

السؤال 121798

يقول بعض الإخوة إن القياس ليس من الدين ، وإن أي حكم شرعي بني علي القياس فهو باطل ، هل هناك أي دليل من السنة أو السلف على شرعية القياس ؟ مع التفصيل ، وجزاكم الله عنا خيراً إن شاء الله .

الجواب

الحمد لله.

أولاً:

ليس في شرع الله تعالى من مصادر للوحي غير القرآن والسنَّة ، فهما مرجع المسلمين في اعتقادهم ، وأحكامهم ، وقد أمرنا الله تعالى بطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في تلقي الأحكام ، لا غير ، وأمرنا عند التنازع والاختلاف أن نرجع إلى الكتاب والسنَّة ليكونا حكماً بين المختلفين .

قال تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ) النساء/ 59 ، وقال تعالى : ( وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ) الشورى/ 10 .

وإذا علمنا أن القياس ليس من مصادر التشريع : فهو لا يناقض أنه وسيلة لإثبات الأحكام الشرعية التي تشترك مع المنصوص عليه بجامع العلة بينهما ، وهذا لا يتناقض مع الآيات المذكورة ؛ لأن القياس كان على وارد في نصوص الوحي ، والشريعة لا تفرِّق بين متماثليْن ، ومثله يقال في الإجماع ، حيث لا إجماع إلا على نص من الوحي ، فصارت مصادر التشريع : الكتاب والسنَّة ، وأما الإجماع والقياس فمرجعهما إلى نصوص الوحي ، فتسميتهما " مصادر تشريع " هي مسألة اصطلاحية ، فيها نوع من التسامح في العبارة ، والمراد بها : أنه من المصادر المعرفة بتشريع الله ، والموصلة إليه .

وانظر جواب السؤال رقم : ( 112268 ) .

ثانياً:

أما نفاة القياس مطلقاً فهم الظاهرية ، وعلى رأسهم : أبو محمد ابن حزم ، وقد ساق الأدلة والأقوال الكثيرة على نفي القياس في الشرع مطلقاً ، وقد ردَّ عليه أئمة التحقيق ، وتتبعوا أدلته وأقواله بالرد والنقض ، وبينوا أنه ليس كل قياس معتبر ، كما لا يمكن رد القياس الصحيح المنضبط ونفيه من الشرع .

ومن الأئمة الذين تتبعوا أقوال الظاهرية بنفي القياس وردوا عليهم : الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه " إعلام الموقعين " ، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي في كتابه " أضواء البيان " .

وبعد أن ساق الشنقيطي رحمه الله مجمل أدلة الظاهرية في نفي القياس ختم ذلك بقوله :

اعلم أن تحقيق المقام في هذه المسألة التي وقع فيها من الاختلاف ما رأيت : أن القياس قسمان : قياس صحيح ، وقياس فاسد .

أما القياس الفاسد : فهو الذي ترِدُ عليه الأدلة التي ذكرها الظاهرية ، وتدل على بطلانه ، ولا شك أنه باطل ، وأنه ليس من الدِّين كما قالوا ، وكما هو الحق .

وأما القياس الصحيح : فلا يرِد عليه شيء من تلك الأدلة ، ولا يناقض بعضه بعضاً ، ولا يناقض البتة نصّاً صحيحاً من كتاب ، أو سنَّة ، فكما لا تتناقض دلالة النصوص الصحيحة : فإنه لا تتناقض دلالة الأقيسة الصحيحة ، ولا دلالة النص الصريح والقياس الصحيح ، بل كلها متصادقة ، متعاضدة ، متناصرة ، يصدق بعضها بعضاً ، ويشهد بعضها لبعض ، فلا يناقض القياس الصحيح النصَّ الصحيح أبداً .

وضابط القياس الصحيح هو : أن تكون العلة التي علق الشارع بها الحكم وشرعه من أجلها موجودة بتمامها في الفرع ، من غير معارض في الفرع يمنع حكمها فيه ، وكذلك القياس المعروف بـ " القياس في معنى الأصل " الذي هو الإلحاق بنفي الفارق المؤثر في الحكم . فمثل ذلك لا تأتي الشريعة بخلافه ، ولا يعارض نصّاً ، ولا يتعارض هو في نفسه . وسنضرب لك أمثلة من ذلك تستدل بها على جهل الظاهرية القادح ، الفاضح ، وقولهم على الله ، وعلى رسوله ، وعلى دينه أبطل الباطل ، الذي لا يشك عاقل في بطلانه ، وعظم ضرره على الدين ، بدعوى أنهم واقفون مع النصوص ، وأن كل ما لم يصرح بلفظه في كتاب ، أو سنَّة فهو معفو عنه ، ولو صرح بعلة الحكم المشتملة على مقصود الشارع من حكمة التشريع ، فأهدروا المصالح المقصودة من التشريع ، وقالوا على الله ما يقتضي أنه يشرع المضار الظاهرة لخلقه .

فمن ذلك : ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي بكرة رضي الله عنه : من أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لاَ يَقْضِينَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَين وَهُوَ غَضْبان ) ، فالنَّبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح نهى عن الحُكم في وقت الغضب ، ولا يشك عاقل أنه خص وقت الغضب بالنهي دون وقت الرضا ؛ لأن الغضب يشوِّش الفكر ، فيمنع من استيفاء النظر في الحكم ، فيكون ذلك سبباً لضياع حقوق المسلمين ، فيلزم على قول الظاهرية - كما قدمنا إيضاحه - : أن النهي يختص بحالة الغضب ، ولا يتعداها إلى غيرها من حالات تشويش الفكر المانعة من استيفاء النظر في الحكم ، فلو كان القاضي في حزن مفرط يؤثر عليه تأثيراً أشد من تأثير الغضب بأضعاف ، أو كان في جوع ، أو عطش مفرط يؤثر عليه أعظم من تأثير الغضب : فعلى قول الظاهرية : فحُكمُه بين الناس في تلك الحالات المانعة من استيفاء النظر في الحكم : عفو ، جائز ؛ لأن الله سكت عنه في زعمهم ، فيكون الله قد عفا للقاضي عن التسبب في إضاعة حقوق المسلمين التي نصبه الإمام من أجل صيانتها وحفظها من الضياع ، مع أن تنصيص النَّبي صلى الله عليه وسلم على النهي عن الحكم في حالة الغضب دليل واضح على المنع من الحكم في حالة تشويش الفكر تشويشاً كتشويش الغضب أو أشد منه ، كما لا يخفى على عاقل ، فانظر عقول الظاهرية ، وقولهم على الله ما يقتضي أنه أباح للقضاة الحكم في حقوق المسلمين في الأحوال المانعة من القدرة على استيفاء النظر في الأحكام ، مع نهي النَّبي صلى الله عليه وسلم الصريح عن ذلك في صورة من صوره ، وهي الغضب ، بزعمهم أنهم واقفون مع النصوص .

ومن ذلك : قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ، فالله جل وعلا في هذه الآية الكريمة نص على أن الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء يجلدون ثمانين جلدة ، وترد شهادتهم ، ويحكم بفسقهم ، ثم استثنى من ذلك من تاب من القاذفين من بعد ذلك ، وأصلح ، ولم يتعرض في هذا النص لحكم الذين يرمون المحصنين الذكور .

فيلزم على قول الظاهرية : أن من قذف محصناً ذكراً ليس على أئمة المسلمين جلدَه ، ولا رد شهادته ، ولا الحكم بفسقه ؛ لأن الله سكت عن ذلك في زعمهم ، وما سكت عنه فهو عفو ! .

فانظر عقول الظاهرية ، وما يقولون على الله ورسوله من عظائم الأمور ، بدعوى الوقوف مع النص .

ودعوى بعض الظاهرية : أن آية ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ) شاملة للذكور بلفظها ، بدعوى أن المعنى : يرمون الفروج المحصنات من فروج الإناث ، والذكور : من تلاعبهم ، وجهلهم بنصوص الشرع ، وهل تمكن تلك الدعوى في قوله تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ ) ؟! ، فهل يمكنهم أن يقولوا : إن الفروج هي الغافلات المؤمنات ، وكذلك قوله تعالى : ( وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَآءِ ) ، وقوله تعالى : ( مُحْصَنَات غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ ) كما هو واضح .

ومن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد : فإنه لا يشك عاقل أن علة نهيه عنه أن البول يستقر فيه لركوده فيقذره ، فيلزم على قول الظاهرية : أنه لو ملأ آنية كثيرة من البول ، ثم صبها في الماء الراكد ، أو تغوط فيه : أن كل ذلك عفو ؛ لأنه مسكوت عنه ، فيكون الله - على قولهم - ينهى عن جعل قليل من البول فيه إذا باشر البول فيه ، ويأذن في جعل أضعاف ذلك من البول فيه ، بصبه فيه من الآنية ، وكذلك يأذن في التغوط فيها .

وهذا لو صدر من أدنى عاقل : لكان تناقضاً معيباً عند جميع العقلاء ، فكيف بمن ينسب ذلك إلى الله ورسوله عياذاً بالله تعالى بدعوى الوقوف مع النصوص ، وربما ظن الإنسان الأجر ، والقربة فيما هو إلى الإثم والمعصية أقرب ، .....

ومن ذلك : نهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء ، مع سكوته عن حكم التضحية بالعمياء ، فإنه يلزم على قول الظاهرية : أن يناط ذلك الحكم بخصوص لفظ العوَر خاصة . فتكون العمياء مما سكت الله عن حكم التضحية به ، فيكون ذلك عفواً ، وإدخال العمياء في اسم العوراء لغة غير صحيح ؛ لأن المفهوم من العوَر غير المفهوم من العمَى ؛ لأن العور لا يطلق إلا في صورة فيها عين تبصر ، بخلاف العمَى فلا يطلق في ذلك ، وتفسير العور : بأنه عمى إحدى العينين لا ينافي المغايرة ؛ لأن العمى المقيد بإحدى العينين غير العمى الشامل للعينين معاً ، وبالجملة : فالمعنى المفهوم من لفظ العور غير المعنى المفهوم من لفظ العمى . فوقوف الظاهرية مع لفظ النص يلزمه جواز التضحية بالعمياء ؛ لأنها مسكوت عنها .

وأمثال هذا منهم كثيرة جدّاً .

وقصدنا : التنبيه على بطلان أساس دعواهم ، وهو الوقوف مع اللفظ من غير نظر إلى معاني التشريع ، والحكم ، والمصالح التي هي مناط الأحكام ، وإلحاق النظير بنظيره الذي لا فرق بينه وبينه يؤثر في الحكم .

" أضواء البيان " ( 4 / 211 – 214 ) .

وننبه إلى أن مبحث الشيخ الشنقيطي رحمه الله في الرد على نفاس القياس من الظاهرية استغرق عشرات الصفحات ، ولا نستطيع نقل كلامه كله ، فمن أراد زيادة الفائدة فيرجع إلى كتابه " أضواء البيان " ( 4 / 175 – 228 ) .

والله أعلم

مصادر التشريع
عرض في موقع إسلام سؤال وجواب