ورد في " مصنف عبد الرزاق " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينصرف بعد الصلاة مباشرة.. فمتى كان صلى الله عليه وسلم يأتي بالأذكار ، وبأي ترتيب ، هل كان يأتي بها دفعة واحدة .
وعلى ما أظن أن هذه الرواية توافق رأي الحنفية الذين يقولون بأن الجلوس المندوب بعد الصلاة لا يكون إلا بمقدار ما يقول الشخص : " اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام " ثم الأفضل أن يذهب فيأتي بالأذكار والرواتب والسنن في بيته.. فهل هذا صحيح ؟
الحمد لله.
أولا :
اتفق العلماء على أنه يكره للإمام إذا سلم أن يبقى على جلسته مستقبلا القبلة ، بل
يستدير ويقبل على الناس بوجهه .
يقول الكاساني رحمه الله :
" إن كانت صلاة لا تصلى بعدها سنة ، كالفجر والعصر : فإن شاء الإمام قام ، وإن شاء
قعد في مكانه يشتغل بالدعاء ; لأنه لا تطوع بعد هاتين الصلاتين ، فلا بأس بالقعود ،
إلا أنه يكره المكث على هيئته مستقبل القبلة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة لا يمكث في مكانه إلا مقدار أن
يقول : ( اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) ; ولأن مكثه
يوهم الداخل أنه في الصلاة فيقتدي به فيفسد اقتداؤه ، فكان المكث تعريضا لفساد
اقتداء غيره به فلا يمكث ، ولكنه يستقبل القوم بوجهه إن شاء " انتهى من " بدائع
الصنائع " (1/159)
ويقول النفراوي المالكي رحمه الله :
" من فضائل الصلاة أنه إذا سلم الإمام من الفريضة فلا يثبت في مكانه بعد سلامه ،
سواء كانت الصلاة مما يتنفل بعدها أم لا ، ولينصرف .
وهل ينصرف جملة ؟ وهو ظاهر كلام المصنف ، أو يتحول ليس إلا . والمراد بانصرافه
خروجه من المحراب ، والمراد بتحويله أي : يمينا أو شمالا .
ورجح القول بالتحويل ، قال الأجهوري : ويكفي تغيير هيئته .
قال الثعالبي : وهذا هو السنة ، واختلف في علته ، فقيل لأن الموضع لا يستحقه إلا من
أجل الصلاة ، فإذا فرغ لا يستحقه بعدها .
وقيل : إن العلة التلبيس على الداخل .
ونقل عن الشافعي رضي الله عنه أنه يثبت بعد سلامه قليلا ، لما في صحيح مسلم أنه صلى
الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : ( اللهم أنت السلام ومنك
السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام ) " انتهى من " الثمر الداني شرح رسالة ابن
أبي زيد القيرواني " (161)
ويقول البهوتي الحنبلي رحمه الله :
" يستحب للإمام أن لا يطيل الجلوس بعد السلام مستقبل القبلة ؛ لقول عائشة رضي الله
عنها إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سلم لم يقعد إلا مقدار ما يقول : اللهم
أنت السلام ، ومنك السلام ، تباركت يا ذا الجلال والإكرام . رواه مسلم " انتهى من "
كشاف القناع " (1/364)
ثانيا :
ولكن اختلف الفقهاء في حكم إطالة الجلوس عقب الصلاة للذكر والدعاء ، وذلك على قولين
:
القول الأول : يستحب إطالة الذكر والدعاء عقب الفراغ من الصلاة ، للمأموم والمنفرد
مطلقا ، وللإمام بعد أن يتحول عن استقبال القبلة ، وهذا قول جمهور الفقهاء من
المالكية والشافعية والحنابلة .
يقول الإمام الشافعي رحمه الله :
" أستحب أن يذكر الإمامُ اللهَ شيئا في مجلسه قدر ما يتقدم من انصرف من النساء
قليلا كما قالت أم سلمة ، ثم يقوم ، وإن قام قبل ذلك أو جلس أطول من ذلك فلا شيء
عليه...وأستحب للمصلي منفردا وللمأموم أن يطيل الذكر بعد الصلاة ، ويكثر الدعاء
رجاء الإجابة بعد المكتوبة " انتهى من " الأم " (1/151)
واستدلوا على ذلك بجميع الأحاديث الواردة في تخصيص أذكار معينة عقب الصلاة ، وهي
أحاديث كثيرة ، جمعها أحد الباحثين – واسمه غالب الحامضي - في بحث بعنوان : "
الأحاديث الواردة المقيدة بأدبار الصلوات في كتب السنة جمعا ودراسة ".
يقول الإمام النووي رحمه الله :
" اتفق الشافعي والأصحاب وغيرهم رحمهم الله على أنه يستحب ذكر الله تعالى بعد
السلام ، ويستحب ذلك للإمام ، والمأموم ، والمنفرد ، والرجل ، والمرأة ، والمسافر ،
وغيره ، ويستحب أن يدعو أيضا بعد السلام بالاتفاق ، وجاءت في هذه المواضع أحاديث
كثيرة صحيحة في الذكر والدعاء ، قد جمعتها في كتاب الأذكار " انتهى من " المجموع "
(3/465)
ويقول الشيخ العدوي المالكي :
" يستحب الذكر بأثر الصلوات المفروضات من غير فصل بنافلة ، ولو طال الفصل عمدا
فالظاهر أنه لا يحصل به الطريقة المشروعة عقب الصلوات ، إلا أنه يثاب على الإتيان
به " انتهى باختصار من " حاشية العدوي " (1/284)
ويقول البهوتي الحنبلي رحمه الله :
" يسن ذكر الله والدعاء والاستغفار عقب الصلاة المكتوبة كما ورد في الأخبار ، قال
ابن نصر الله في الشرح : والظاهر أن مرادهما أن يقول ذلك وهو قاعد ، ولو قاله بعد
قيامه وفي ذهابه فالظاهر : أنه مصيب للسنة أيضا ، إذ لا تحجير في ذلك " انتهى من "
كشاف القناع " (1/365)
القول الثاني : إذا كانت صلاة الفريضة تتبعها سنة راتبة بعدية ، فيستحب تقصير
الجلوس عقب الفراغ من الصلاة ، وتعجيل القيام منها والانصراف إلى صلاة النافلة في
البيت ، ولا يجلس إلا مقدارا يسيرا ، وبعد ذلك يمكنه أن يأتي بما يشاء من الأذكار ،
وهو قول فقهاء الحنفية ، قالوا يكره تأخير صلاة السنة الراتبة عن صلاة الفريضة ،
ولا يفصل بينهما حتى بالأذكار الشرعية ، أما الفصل للانتقال إلى البيت فهو الأفضل .
واستدلوا على ذلك بحديث عائشة رضي الله عنها قالت :
( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ لَمْ يَقْعُدْ
إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ : اللهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ ،
تَبَارَكْتَ ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ ) رواه مسلم (592)
كما استدلوا بما رواه عبد الرزاق في " المصنف " (2/246) عن ابن جريج قال : حدثت عن
أنس بن مالك قال : ( صليت وراء النبي صلى الله عليه وسلم ، وكان ساعة يسلم يقوم ،
ثم صليت وراء أبي بكر فكان إذا سلم وثب ، فكأنما يقوم عن رضفة )
ورواه الطبراني في " المعجم الكبير " (1/252)، والبيهقي في " السنن الكبرى "
(2/182) كلاهما من طريق عبد الله بن فروخ ، عن ابن جريج ، عن عطاء ، عن أنس بن مالك
.
يقول ابن عابدين رحمه الله :
" أما ما ورد من الأحاديث في الأذكار عقيب الصلاة فلا دلالة فيه على الإتيان بها
قبل السنة ، بل يحمل على الإتيان بها بعدها ; لأن السنة من لواحق الفريضة وتوابعها
ومكملاتها ، فلم تكن أجنبية عنها ، فما يفعل بعدها يطلق عليه أنه عقيب الفريضة .
وقول عائشة : ( بمقدار ) لا يفيد أنه كان يقول ذلك بعينه ، بل كان يقعد بقدر ما
يسعه ونحوه من القول تقريبا ، فلا ينافي ما في الصحيحين من أنه صلى الله عليه وسلم
كان يقول في دبر كل صلاة مكتوبة : ( لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك
وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ،
ولا ينفع ذا الجد منك الجد ) " انتهى من " رد المحتار " (1/531)
والراجح ما ذهب إليه جمهور أهل العلم خلافا للحنفية ،
أنه يستحب إطالة الجلوس عقب الصلاة للإتيان بالأذكار المشروعة ، وذلك لعشرات
الأحاديث الواردة في استحباب الأذكار (دبر الصلاة)، والأصل في دبر الشيء التعقيب
والمباشرة ، وليس التراخي ، ومن أصرح الأحاديث التي تدل على استحباب الذكر عقب
الصلاة المكتوبة حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : ( كُنْتُ
أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِالتَّكْبِيرِ ) رواه البخاري (842)
وأما الجواب على أدلة الحنفية فظاهر أيضا ؛ لأن حديث عائشة رضي الله عنها : ( لَمْ
يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ ) لا يعني أنه صلى الله عليه وسلم كان ينهض
ويخرج من المسجد بعد أن يقول : اللهم أنت السلام ومنك السلام . وإنما يعني أنه كان
يتحول عن توجهه للقبلة ، ويستقبل الناس بوجهه ، فينصرف عن قعدته تجاه القبلة بعد أن
يأتي بهذا الذكر ، ولا يلزم منه النهوض والخروج إلى البيت كما يقرره فقهاء الحنفية
، وقد سبق في أول جوابنا نقل كلام البهوتي الحنبلي رحمه الله في الاستدلال بهذا
الحديث على ما ذكرناه .
أما الحديث الثاني حديث أنس بن مالك فظاهر الضعف ، فقد
قال الراوي ابن جريج : حُدثت عن أنس بن مالك ، فأبهم شيخه الذي حدثه عن أنس بن مالك
رضي الله عنه ، ومعلوم أن الإسناد الذي يشتمل على راو مبهم ضعيف لا يثبت .
وأما الطريق الثاني : ففيه عبد الله بن فروخ ، قال فيه البخاري : تعرف منه وتنكر ،
وقال ابن حبان : ربما خالف . وقال الخطيب : في حديثه نكرة . انظر : " تهذيب التهذيب
" (5/356)
وانظر : (147965) ، (148168)
والله أعلم .