الحمد لله.
فاحمد الله تعالى أن وفقك
للتوبة والندم ، ولم يعاجلك بالعقوبة ، واحذر اليأس والقنوط والاستسلام لوسوسة
الشيطان ، فالتوبة نافعة من سائر الذنوب مهما عظمت ، وقد قاتل أناس نبينا صلى الله
عليه وسلم ، ثم تابوا وأفلحوا وقدموا أرواحهم فداءً له صلى الله عليه وسلم .
ثانيا :
اختلف العلماء في ساب النبي صلى الله عليه وسلم إذا تاب ، هل يسقط عنه القتل أم لا
؟
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله : " ونقل أبو بكر الفارسي أحد أئمة الشافعية في كتاب
الإجماع أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم ، مما هو قذف صريح ، كفر باتفاق العلماء
، فلو تاب لم يسقط عنه القتل ؛ لأن حد قذفه القتل ، وحد القذف لا يسقط بالتوبة ،
وخالفه القفال فقال : كفر بالسب فيسقط القتل بالإسلام ، وقال الصيدلاني : يزول
القتل ويجب حد القذف ، وضعفه الإمام " انتهى من "فتح الباري" (12/ 281).
وسبق نقل كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في عدم سقوط القتل عنه ، وينظر : سؤال رقم (150989)
.
لكن ينبغي أن يُعلم أن هذا القتل - عند من قال به - هو من باب الحد ، والحد مسئولية
الإمام ، أي يجب على الإمام المسلم أن يقيم الحد على الساب ، إذا رُفع أمره إليه .
وأما الساب : فإذا ستره الله تعالى ، ولم يُرفع أمره للقضاء ، فالمشروع له أن يستر
نفسه ، ويجتهد في التوبة والاستغفار والإكثار من الأعمال الصالحة ، والثناء
والتعظيم والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، رجاء أن يعفو الله عنه ، ويُرضي
عنه نبيه يوم القيامة .
قال الله تعالى : ( وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا
ثُمَّ اهْتَدَى ) طه/82 .
وقال تعالى : ( ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ
ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا
لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) النحل/119 .
وقد روى مسلم (2590) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( لَا يَسْتُرُ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ فِي الدُّنْيَا
إِلَّا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ).
وهذا من البشارة للتائب الذي ستره الله تعالى في الدنيا ، أن الله سيستره في الآخرة
، وقد حلف النبي صلى الله عليه وسلم على هذا المعنى تأكيدا له ، فقد روى أحمد
(23968) عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ : ( ثَلَاثٌ أَحْلِفُ عَلَيْهِنَّ : لَا يَجْعَلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَنْ
لَهُ سَهْمٌ فِي الْإِسْلَامِ كَمَنْ لَا سَهْمَ لَهُ ؛ فَأَسْهُمُ الْإِسْلَامِ
ثَلَاثَةٌ : الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ ، وَلَا يَتَوَلَّى اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا فَيُوَلِّيهِ غَيْرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَلَا
يُحِبُّ رَجُلٌ قَوْمًا إِلَّا جَعَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَعَهُمْ ،
وَالرَّابِعَةُ لَوْ حَلَفْتُ عَلَيْهَا رَجَوْتُ أَنْ لَا آثَمَ : لَا يَسْتُرُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدًا فِي الدُّنْيَا ، إِلَّا سَتَرَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ ) وصححه الألباني في " السلسة الصحيحة " برقم (1387).
وروى البخاري (18) ومسلم (1709) عن عبادة بن الصامت أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: ( بَايِعُونِي عَلَى أَنْ
لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَسْرِقُوا وَلَا تَزْنُوا وَلَا
تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ وَلَا تَأْتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ
أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ ؛ فَمَنْ وَفَى مِنْكُمْ
فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ فِي
الدُّنْيَا فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ، وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ
سَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ ، وَإِنْ شَاءَ
عَاقَبَهُ ) فَبَايَعْنَاهُ عَلَى ذَلِك .
فاحمد الله على التوبة ،
واجتهد في طاعة الله ، وابذل ما تستطيع في نصرة نبيك صلى الله عليه وسلم وإحياء
سنته ، وسل الله تعالى أن يُرضي عنك نبيه صلى الله عليه وسلم .
والله أعلم .