ما حكم الشرع في من يعاملها والداها بقسوة ، ويقولان لها : لست بنتنا ، ويطالبونها بالقيام بأشياء على حساب أسرتها ، والقيام بأمر بيتها ، ورغم كل ما تقوم به، مثل : تطبيب الأم ، إلا أنها دائما تقابل من طرف الأب أولا بالإنكار والجحود ، وأنها مقصرة ، والأم تابعة له في كل أرائه ، إذا قمت بزيارتهم وأردت خدمتهم فإنهم يقولون : بأن الجيران يتكفلون بهم ، وإذا رجعت يخبرون الناس بأنني جاحدة لا أخدمهم ، وكلما زرتهم رجعت إلى بيتي بقلب ممزق، وزوجي يأمرني بعدم الزيارة إلا مرة في الشهر .
فما العمل ؟
الحمد لله.
كثيرة هي المشاكل التي تعرض في حياة الأسرة المسلمة ، كما أنها متنوعة بتنوع نواحي
الحياة المختلفة إلى اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية ، ولكن من أخطر أنواع المشاكل
تلك التي يعاني فيها الأبناء من تصرفات آبائهم وأمهاتهم ، ذلك أن الواجب أن يقوم
الوالدان باحتواء أبنائهم وبناتهم وشملهم بعطفهم ورعايتهم ، وتفهم حاجاتهم ،
ومراعاة نفسياتهم ، في حين أن الحال ينعكس في هذا النوع من المشاكل ، حيث تتغير
وجهة الخطاب لتصبح موجهة إلى الأولاد ، كي تتسع صدورهم ونفوسهم لما يعانونه من
والديهم .
وسوف نعترف لك - مقدما - بأن حديثنا هنا ربما يبدو وكأنه يهون من مشكلة ، هي كبيرة
في حقيقة الأمر ، ونقول لك أختنا الكريمة : لا عيب في ذلك ، فإذا قدر أن ذلك
التهوين يخفف عنا بعضا من أعباء تلك المشاكل ، وإحساسنا بوطأتها ، فأهلا به ، وهو
جزء من العلاج :
فَقُلتُ لَها يا عَزَّ كُلُّ مُصيبَةٍ * إِذا وُطِّنَت يَومًا لَها النَفسُ ذلَّتِ
وإذا كان لهذه المشكلة طرفان : أحدهما أنت ، والآخر : أسرتك ؛ أمك ، وأبوك ؛ فإن
حديثنا سوف ينصب في معظمه عليك ، وأنت الشاكية ، وأنت المظلومة ، كما يبدو لنا من
رسالتك ؟!!
وإذا بدا ذلك نوعا من الاستسهال في التعامل مع المشكلة ، فليكن ـ أختنا الكريمة ـ ؛
فلا أنت ، ولا نحن نريد تعقيد المشكلة ، ولا إلهاب العداوة ، إنما نريد الحل ، بغض
النظر عن طرف الخيط الذي نمسك به ؛ فالمهم أن نحل المشكلة ، إن استطعنا ، أو ـ على
أقل تقدير ـ ألا نزيدها تعقيدا !!
لو كان أبوك يسمع لنا لقلنا له : الواجب الأول عليك ، والدور الكبير لك ، فأنت
القيم ، وأنت الراعي ومسئول عن رعيتك ؛ لكنه لم يسألنا ، ولا نظنه يسمع لنا صوتا !!
لو كانت أمك تسمع نداءنا لقلنا لها : اللهَ الله في بنتكِ .
لو كانت أمك تسمع لنا لقلنا لها : ( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى
مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ
يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ) رواه
مسلم (1837) .
لقد كان من الممكن أن نقول الكثير ، لو كان طرف المشكلة الآخر يسمع لنا !!
لكننا الآن مضطرون إلى أن نوجه حديثنا إلى طرف واحد ، هو أنت ، وأن نحمل عبء الحل
على جانب واحد ، هو أنت ، فأنت الخيط الذي نملك أن نجذبه ، إذا كنا نريد أن نحل
العقدة التي تؤرقك !!
والبداية الصحيحة في العلاج تبدأ من الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في قوله
تعالى :
( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن
كَثِيرٍ ) الشورى/30 ، فتغيير كل واقع إنما ينطلق من أصحاب الشأن ، وليس من غيرهم ،
وينطلق فقط حين يتفهمون أن التغيير يبدأ من أنفسهم ، وليس من غيرهم : ( إِنَّ
اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ )
الرعد/11.
فلا بد – أختي الفاضلة – أن تتلمسي مواضع الخلل ومكامن النقص في تعاملك مع أسرتك ،
وتعملي على علاجها أو لنقل – تغييرها - ، ولا نقول هذا تجاوزا ، إذ ليس بالضرورة أن
يكون هذا الخلل سوء خلق منك – لا قدر الله - ، لكنه قد يكون خطأ في طريقة التعاطي
مع المشكلة والتعامل مع الواقع ؛ وكمثال على ذلك ، نقول :
إن الانفعال السريع والغضب أساس كثير من المشكلات ، ولن يكون ذلك علاجا لمشكلة أبدا
، كيف وهو الداء الذي يحتاج إلى علاج ؛ فمن رام تحصيل ما يتمنى فلا بد أن يكتم في
قلبه بعض سهام الظلم أو الأذى ، والتقي مُلْجَم !!
عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا مِنْ جُرعَةٍ
أَعظَمُ أَجرًا عِندَ اللَّهِ مِن جُرعَةِ غَيظٍ كَظَمَهَا عَبدٌ ابتِغَاءَ وَجهِ
اللَّهِ ) رواه ابن ماجه ( 4189 ) وحسنه العراقي في " تخريج الإحياء " ( 4 / 163 )
.
ويمكنك الاستفادة من الأجوبة التالية في علاج سرعة الغضب : (
658 ) و (
45647 ) .
وأظنك تملكين – والحمد لله –
بعض المفاتيح التي يمكن أن تخفف عنك ما أهمك ، فيمكنك -بمؤازرة من زوجك - أن تهدي
لوالديك بعض المال ؛ لأن المال يأسر القلوب ، أو تقدمي لهما بعض الهدايا العينية .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تَهَادُوا
تَحَابُّوا ) .
رواه البخاري في " الأدب المفرد " ( 208 ) وحسَّنه العراقي في " تخريج الإحياء " (
2 / 53 ) وابن حجر في " بلوغ المرام " ( 277 ) والألباني في " صحيح الأدب المفرد "
.
وبالهدية يمكن أن تتملكي قلب والدك ووالدتك ، وسيكون لذلك أثر عظيم في نفسيهما إن
شاء الله.
واعلمي – أيتها الفاضلة – أن
قلب الوالدة يظل ينبض بالشفقة والرأفة على ولده ، مهما أظهر من قسوة وشدة ، فحاولي
أن تستخرجي كل رحمة في قلب والدتك ، بالتحبب والتذلل والمسامحة والمصابرة ، ولا
أظنك إذا ارتميت في حجر والدتك وقبلت يدها واختلطت دموعك بكلماتك في حبها وشكوى تعب
الحياة وألمها إليها : فلا أظنك ترجعين خائبة ، بل أرجو أن تعود والدتك خيراً مما
كنت تظنين .
يقول الله عز وجل : ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ
وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فصلت/34 .
وقد جاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه : ( وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ
السَّيِّئَةَ ، وَلَكِن يَعفُو وَيَغفِر ) رواه البخاري ( 2125 ) .
وأولى من يعامل بالحسنى ويقابل بالمسامحة هما الوالدان ، لما فرض الله لهما من حق
عظيم ، حتى قال سبحانه وتعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ
الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) الإسراء/24 .
والخُلُق الحسن يقتضي تحمل الظلم والأذى من الأحبة ، فكيف بالوالدين ؟!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " المؤمن ملجم بلجام ، فلا يبلغ حقيقةَ الإيمان
حتى يجد طعمَ الذل " .
وخطب علي بن أبي طالب في أصحابه فقال : ( كونوا في الناس كالنحلة في الطير ، فإنه
ليس شيء من الطير إلا يستضعفها ، ولو يعلم ما في أجوافها لم يفعل ، خالقوا الناس
بأخلاقكم وألسنتكم ، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم ، فإن لامرئ ما اكتسب ، وهو يوم
القيامة مع من أحب ) .
وعن محمد بن الحنفية قال : ( ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته
بُدّاً ، حتى يجعل الله له فرجا - أو قال : مخرجاً - )
روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتابه " مداراة الناس " ( 37 ، 27 ، 41 ) .
كن كالنخيل عن الأضغان مرتفعا * يرمى بطوب ، فيلقي أطيب الثمرِ
ثانيًا :
إذا استنفدت كلّ السبل المتاحة أمامك ، واستمرت الأمور كما هي ولم تلتمسي تحسناً في
العلاقة ، وكان ترددك على والديك بالزيارة يتسبب في استمرار المشاكل ، فلا حرج أن
تقللي من الزيارات قدر الإمكان ، وتقتصري على أقل ما يحصل به الزيارة والصلة لهما .
فإن لم يندفع ضررهما عنك فلا حرج عليك أن تمتنعي عن زيارتها بالكلية ، ولو لفترة ما
حتى ينقطع شرهما عنك وعن بيتك .
ولو أمكن أن تنتقلي أنت وزوجك إلى العيش في بلدة أخرى بعيدا عنهما فهو أحسن لكما ،
وأبعد عن المشكلات معهما.
فإذا غلب على ظنك أن شرهما وأذاها اندفع عنك ، فعودي إلى زيارتهما وصلتهما بما
ذكرنا لك من التوجيه سابقا .
وحينئذ :
فأنت في حاجة إلى استصحاب الصبر الجميل ، وكظم الغيظ ، وفعل الخير والصلة لوالديك ،
من غير أن تقيدي ذلك بشكر منهم ، أو مكافأة عليه ، ولو بكلمة طيبة ؛ بل تفعلين ذلك
كله لله ، ولا تنتظري من غيره أجرا ولا جزاء ولا شكورا .
ثم عليك أن توازني في ذلك كله :
فبر الوالدين والإحسان إليهما : أصل عظيم في الشرع ؛ لكن إن عجزت عن ذلك ، أو ترتب
عليه ضرر بأسرتك ، وساء ذلك زوجك : فقللي من ذلك ما استطعت ، بحيث تحافظين على أصل
الصلة والمعروف والإحسان ، وتدفعين الضرر عنك وعن أسرتك ، وتسترضين زوجك ، الذي هو
أعظم حقا عليك من والديك .
وانظري جواب السؤال رقم : (101321).
والله أعلم .