الجمعة 19 رمضان 1445 - 29 مارس 2024
العربية

كيف تتصرف مع والديها اللذين يعاملانها بقسوة ويشتكون منها دائماً؟

194580

تاريخ النشر : 27-05-2013

المشاهدات : 6304

السؤال


ما حكم الشرع في من يعاملها والداها بقسوة ، ويقولان لها : لست بنتنا ، ويطالبونها بالقيام بأشياء على حساب أسرتها ، والقيام بأمر بيتها ، ورغم كل ما تقوم به، مثل : تطبيب الأم ، إلا أنها دائما تقابل من طرف الأب أولا بالإنكار والجحود ، وأنها مقصرة ، والأم تابعة له في كل أرائه ، إذا قمت بزيارتهم وأردت خدمتهم فإنهم يقولون : بأن الجيران يتكفلون بهم ، وإذا رجعت يخبرون الناس بأنني جاحدة لا أخدمهم ، وكلما زرتهم رجعت إلى بيتي بقلب ممزق، وزوجي يأمرني بعدم الزيارة إلا مرة في الشهر .

فما العمل ؟

الجواب

الحمد لله.


كثيرة هي المشاكل التي تعرض في حياة الأسرة المسلمة ، كما أنها متنوعة بتنوع نواحي الحياة المختلفة إلى اجتماعية أو اقتصادية أو نفسية ، ولكن من أخطر أنواع المشاكل تلك التي يعاني فيها الأبناء من تصرفات آبائهم وأمهاتهم ، ذلك أن الواجب أن يقوم الوالدان باحتواء أبنائهم وبناتهم وشملهم بعطفهم ورعايتهم ، وتفهم حاجاتهم ، ومراعاة نفسياتهم ، في حين أن الحال ينعكس في هذا النوع من المشاكل ، حيث تتغير وجهة الخطاب لتصبح موجهة إلى الأولاد ، كي تتسع صدورهم ونفوسهم لما يعانونه من والديهم .
وسوف نعترف لك - مقدما - بأن حديثنا هنا ربما يبدو وكأنه يهون من مشكلة ، هي كبيرة في حقيقة الأمر ، ونقول لك أختنا الكريمة : لا عيب في ذلك ، فإذا قدر أن ذلك التهوين يخفف عنا بعضا من أعباء تلك المشاكل ، وإحساسنا بوطأتها ، فأهلا به ، وهو جزء من العلاج :
فَقُلتُ لَها يا عَزَّ كُلُّ مُصيبَةٍ * إِذا وُطِّنَت يَومًا لَها النَفسُ ذلَّتِ
وإذا كان لهذه المشكلة طرفان : أحدهما أنت ، والآخر : أسرتك ؛ أمك ، وأبوك ؛ فإن حديثنا سوف ينصب في معظمه عليك ، وأنت الشاكية ، وأنت المظلومة ، كما يبدو لنا من رسالتك ؟!!
وإذا بدا ذلك نوعا من الاستسهال في التعامل مع المشكلة ، فليكن ـ أختنا الكريمة ـ ؛ فلا أنت ، ولا نحن نريد تعقيد المشكلة ، ولا إلهاب العداوة ، إنما نريد الحل ، بغض النظر عن طرف الخيط الذي نمسك به ؛ فالمهم أن نحل المشكلة ، إن استطعنا ، أو ـ على أقل تقدير ـ ألا نزيدها تعقيدا !!
لو كان أبوك يسمع لنا لقلنا له : الواجب الأول عليك ، والدور الكبير لك ، فأنت القيم ، وأنت الراعي ومسئول عن رعيتك ؛ لكنه لم يسألنا ، ولا نظنه يسمع لنا صوتا !!
لو كانت أمك تسمع نداءنا لقلنا لها : اللهَ الله في بنتكِ .
لو كانت أمك تسمع لنا لقلنا لها : ( إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا ) رواه مسلم (1837) .
لقد كان من الممكن أن نقول الكثير ، لو كان طرف المشكلة الآخر يسمع لنا !!
لكننا الآن مضطرون إلى أن نوجه حديثنا إلى طرف واحد ، هو أنت ، وأن نحمل عبء الحل على جانب واحد ، هو أنت ، فأنت الخيط الذي نملك أن نجذبه ، إذا كنا نريد أن نحل العقدة التي تؤرقك !!
والبداية الصحيحة في العلاج تبدأ من الحقيقة التي يقررها القرآن الكريم في قوله تعالى :
( وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ ) الشورى/30 ، فتغيير كل واقع إنما ينطلق من أصحاب الشأن ، وليس من غيرهم ، وينطلق فقط حين يتفهمون أن التغيير يبدأ من أنفسهم ، وليس من غيرهم : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ ) الرعد/11.
فلا بد – أختي الفاضلة – أن تتلمسي مواضع الخلل ومكامن النقص في تعاملك مع أسرتك ، وتعملي على علاجها أو لنقل – تغييرها - ، ولا نقول هذا تجاوزا ، إذ ليس بالضرورة أن يكون هذا الخلل سوء خلق منك – لا قدر الله - ، لكنه قد يكون خطأ في طريقة التعاطي مع المشكلة والتعامل مع الواقع ؛ وكمثال على ذلك ، نقول :
إن الانفعال السريع والغضب أساس كثير من المشكلات ، ولن يكون ذلك علاجا لمشكلة أبدا ، كيف وهو الداء الذي يحتاج إلى علاج ؛ فمن رام تحصيل ما يتمنى فلا بد أن يكتم في قلبه بعض سهام الظلم أو الأذى ، والتقي مُلْجَم !!
عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( مَا مِنْ جُرعَةٍ أَعظَمُ أَجرًا عِندَ اللَّهِ مِن جُرعَةِ غَيظٍ كَظَمَهَا عَبدٌ ابتِغَاءَ وَجهِ اللَّهِ ) رواه ابن ماجه ( 4189 ) وحسنه العراقي في " تخريج الإحياء " ( 4 / 163 ) .
ويمكنك الاستفادة من الأجوبة التالية في علاج سرعة الغضب : ( 658 ) و ( 45647 ) .

وأظنك تملكين – والحمد لله – بعض المفاتيح التي يمكن أن تخفف عنك ما أهمك ، فيمكنك -بمؤازرة من زوجك - أن تهدي لوالديك بعض المال ؛ لأن المال يأسر القلوب ، أو تقدمي لهما بعض الهدايا العينية .
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( تَهَادُوا تَحَابُّوا ) .
رواه البخاري في " الأدب المفرد " ( 208 ) وحسَّنه العراقي في " تخريج الإحياء " ( 2 / 53 ) وابن حجر في " بلوغ المرام " ( 277 ) والألباني في " صحيح الأدب المفرد " .
وبالهدية يمكن أن تتملكي قلب والدك ووالدتك ، وسيكون لذلك أثر عظيم في نفسيهما إن شاء الله.

واعلمي – أيتها الفاضلة – أن قلب الوالدة يظل ينبض بالشفقة والرأفة على ولده ، مهما أظهر من قسوة وشدة ، فحاولي أن تستخرجي كل رحمة في قلب والدتك ، بالتحبب والتذلل والمسامحة والمصابرة ، ولا أظنك إذا ارتميت في حجر والدتك وقبلت يدها واختلطت دموعك بكلماتك في حبها وشكوى تعب الحياة وألمها إليها : فلا أظنك ترجعين خائبة ، بل أرجو أن تعود والدتك خيراً مما كنت تظنين .
يقول الله عز وجل : ( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ) فصلت/34 .
وقد جاء في وصف النبي صلى الله عليه وسلم أنه : ( وَلَا يَدْفَعُ بِالسَّيِّئَةِ السَّيِّئَةَ ، وَلَكِن يَعفُو وَيَغفِر ) رواه البخاري ( 2125 ) .
وأولى من يعامل بالحسنى ويقابل بالمسامحة هما الوالدان ، لما فرض الله لهما من حق عظيم ، حتى قال سبحانه وتعالى : ( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ) الإسراء/24 .
والخُلُق الحسن يقتضي تحمل الظلم والأذى من الأحبة ، فكيف بالوالدين ؟!
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : " المؤمن ملجم بلجام ، فلا يبلغ حقيقةَ الإيمان حتى يجد طعمَ الذل " .
وخطب علي بن أبي طالب في أصحابه فقال : ( كونوا في الناس كالنحلة في الطير ، فإنه ليس شيء من الطير إلا يستضعفها ، ولو يعلم ما في أجوافها لم يفعل ، خالقوا الناس بأخلاقكم وألسنتكم ، وزايلوهم بأعمالكم وقلوبكم ، فإن لامرئ ما اكتسب ، وهو يوم القيامة مع من أحب ) .
وعن محمد بن الحنفية قال : ( ليس بحليم من لم يعاشر بالمعروف من لا يجد من معاشرته بُدّاً ، حتى يجعل الله له فرجا - أو قال : مخرجاً - )
روى هذه الآثار ابن أبي الدنيا في كتابه " مداراة الناس " ( 37 ، 27 ، 41 ) .
كن كالنخيل عن الأضغان مرتفعا * يرمى بطوب ، فيلقي أطيب الثمرِ

ثانيًا :
إذا استنفدت كلّ السبل المتاحة أمامك ، واستمرت الأمور كما هي ولم تلتمسي تحسناً في العلاقة ، وكان ترددك على والديك بالزيارة يتسبب في استمرار المشاكل ، فلا حرج أن تقللي من الزيارات قدر الإمكان ، وتقتصري على أقل ما يحصل به الزيارة والصلة لهما .
فإن لم يندفع ضررهما عنك فلا حرج عليك أن تمتنعي عن زيارتها بالكلية ، ولو لفترة ما حتى ينقطع شرهما عنك وعن بيتك .
ولو أمكن أن تنتقلي أنت وزوجك إلى العيش في بلدة أخرى بعيدا عنهما فهو أحسن لكما ، وأبعد عن المشكلات معهما.
فإذا غلب على ظنك أن شرهما وأذاها اندفع عنك ، فعودي إلى زيارتهما وصلتهما بما ذكرنا لك من التوجيه سابقا .
وحينئذ :
فأنت في حاجة إلى استصحاب الصبر الجميل ، وكظم الغيظ ، وفعل الخير والصلة لوالديك ، من غير أن تقيدي ذلك بشكر منهم ، أو مكافأة عليه ، ولو بكلمة طيبة ؛ بل تفعلين ذلك كله لله ، ولا تنتظري من غيره أجرا ولا جزاء ولا شكورا .
ثم عليك أن توازني في ذلك كله :
فبر الوالدين والإحسان إليهما : أصل عظيم في الشرع ؛ لكن إن عجزت عن ذلك ، أو ترتب عليه ضرر بأسرتك ، وساء ذلك زوجك : فقللي من ذلك ما استطعت ، بحيث تحافظين على أصل الصلة والمعروف والإحسان ، وتدفعين الضرر عنك وعن أسرتك ، وتسترضين زوجك ، الذي هو أعظم حقا عليك من والديك .
وانظري جواب السؤال رقم : (101321).
والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب