الحمد لله.
ثانياً :
إذا حكمنا بنجاسة ريق الكلب يبقى السؤال عن حكم ما أصاب بفمه من الصيد ، سواء صاده
بنفسه ، أم أمسكه للصائد ، لا فرق بين الحالتين ، فكلاب الصيد تستعمل في كلا
الأمرين ، ولم يرد في السنة أو لدى الفقهاء التفريق بينهما من حيث الطهارة والنجاسة
.
وقد اختلف الفقهاء في هذه
المسألة على قولين :
القول الأول :
وجوب غسل الصيد مكان إمساك الكلب بفمه ، وهو المعتمد في مذهب الشافعية والحنابلة ،
كما هو ظاهر مذهب الحنفية ، حيث نصوا على نجاسة سؤر كلب الصيد ، والسؤر يشمل ما
تبقى من الشراب والطعام ومن كل شيء ، ولم نقف على استثناء حالة الصيد عندهم .
جاء في " مراقي الفلاح " (ص/30) من كتب الحنفية :
" السؤر النجس ما شرب منه الكلب ، سواء فيه كلب صيد وماشية وغيره ".
يقول ابن حجر الهيتمي رحمه الله :
" مَعَضُّ الكلب [ أي: مكان عضته ] من الصيد نجس نجاسة مغلظة ، كغيره مما أصابه بعض
أجزاء الكلب مع رطوبة ، والأصح : أنه لا يُعفى عنه ؛ لندرته ، والأصح : أنه يكفي
غسله بماء سبعا وتراب في إحداهن كغيره ، ولا يجب أن يُقَوَّر ويُطرح ؛ لأنه لم يرد
، وتشرب اللحم بلعابه لا أثر له ؛ لأنه لا نجاسة على الأجواف كما نص عليه " انتهى
من " تحفة المحتاج " (9/331) .
ويقول البهوتي رحمه الله :
" يجب غسل ما أصابه فم الكلب ؛ لأنه موضع أصابته نجاسته ، فوجب غسله كغيره من
الثياب والأواني " انتهى من " كشاف القناع " (6/224) ، وقال عنه المرداوي رحمه الله
: " هو المذهب " ينظر " الإنصاف " (10/433) .
القول الثاني :
لا يجب غسل ما أصاب الكلب بفمه من الصيد ، بل هو مما يعفى عنه ، وهو أحد الأقوال في
مذهب الشافعية – كما نقله النووي في " المجموع " (9/124) - ، وإحدى الروايتين في
مذهب الحنابلة ، كما يقول المرداوي رحمه الله : " صححه في التصحيح ، وتصحيح المحرر
، وجزم به في الوجيز " انتهى من " الإنصاف " (10/434) ، ورجحه شيخ الإسلام ابن
تيمية ، والشيخ ابن عثيمين رحمهما الله .
واستدلوا بظاهر " قول الله عز وجل : ( فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ ) المائدة/4. قالوا : ولم يأمر بغسله ، مع أنه لا ينفك عنه غالبا أو دائما ، ولهذا لم يذكره النبي صلى الله عليه وسلم ، مع ذكره للأحاديث الواردة فيه ، مع تكرار سؤاله صلى الله عليه وسلم عن ذلك " ينظر " المجموع " (9/124).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية
رحمه الله :
" لعاب الكلب إذا أصاب الصيدَ لم يجب غسله في أظهر قولي العلماء ، وهو إحدى
الروايتين عن أحمد ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر أحداً بغسل ذلك ،
فقد عُفي عن لعاب الكلب في موضع الحاجة ، وأمر بغسله في غير موضع الحاجة ، فدلَّ
على أنَّ الشارع راعى مصلحة الخلق وحاجتهم " انتهى من " مجموع الفتاوى " (21/620)،
وانظر (19/25-26) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الرَّسولُ صلّى الله عليه وسلّم قال : ( إِذا وَلَغَ ) ، ولم يقل : ( إِذا عَضَّ
)، فقد يخرج من معدته عند الشرب أشياء لا تخرج عند العضِّ .
ولا شَكَّ أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يغسلون اللحم سبع مرات إِحداها
بالتُّراب ، ومقتضى ذلك أنه معفوٌّ عنه ، فالله سبحانه هو القادر وهو الخالق وهو
المشرِّع ، وإِذا كان معفوًّا عنه شرعاً ، زال ضرره قدراً ، فمثلاً الميتة نجسة ،
ومحرَّمة ، وإِذا اضطُرَّ الإِنسان إِلى أكلها صارت حلالاً ، لا ضرر فيها على
المضطرِّ .
فالصَّحيح : أنه لا يجب غسل ما أصابه فَمُ الكلب عند صيده لما تقدَّم ؛ لأن صيد
الكلب مبنيٌّ على التَّيسير في أصله ؛ وإِلا لجاز أن يُكلِّفَ الله عزّ وجل العباد
أن يصيدوها بأنفسهم ؛ لا بالكلاب المعلَّمة ، فالتيسير يشمل حتى هذه الصُّورة ، وهو
أنه لا يجب غَسْل ما أصابه فَمُ الكلب ، وأن يكون مما عَفَا الله تعالى عنه " انتهى
من " الشرح الممتع " (1/420) .
والقول الثاني : هو أظهر
القولين في المسألة ، لقوة أدلته ، ولما فيه من رفع الحرج والمشقة ، ولكنه لا
يستلزم الحكم بطهارة ريق الكلب مطلقا ، حتى لو ولغ في الآنية ، كما يقرره المالكية
، فالحكم السابق خاص في حالة الصيد فقط ، مستثنى من القاعدة العامة في نجاسة لعاب
الكلب ، والاستثناء لا يجوز القياس عليه وإلا عاد على الحكم الأصلي بالبطلان ،
والحكم الأصلي ثبت بالسنة النبوية الصحيحة في وجوب غسل سؤر الكلب ، فالقول بالعفو
عن لعابه في الصيد فيه جمع بين الأدلة كلها ، وإعمال لها كل بحسب حالتها .
فالعفو عن مكان عض الكلب من الصيد : إنما هو من باب التخفيف والتيسير ، لعموم
البلوى به، ومشقة التحرز عنه .
والله أعلم .