الحمد لله.
ذكر غير واحد من أهل العلم
أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي السرح
فروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" (4/ 1347) ، وابن جرير في "تفسيره" (11/ 534) -
واللفظ له - عن السدي قال : " نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، أسلم، وكان
يكتب للنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان إذا أملى عليه : "سميعًا عليمًا"، كتب هو:
"عليمًا حكيمًا" ، وإذا قال: "عليمًا حكيمًا" كتب: "سميعًا عليمًا"، فشكّ وكفر،
وقال: إن كان محمد يوحى إليه فقد أوحي إليّ ، وإن كان الله ينزله فقد أنزلت مثل ما
أنزل الله ! فلحق بالمشركين، ووشى بعمار وجبير عند ابن الحضرمي، أو لبني عبد الدار
.
وقال بعضهم : نزل قوله ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال أوحي إليّ ولم
يوح إليه شيء) في مسيلمة ، وقوله : (ومن قال سأنزل مثل ما أنزل الله) ، في ابن أبي
السرح .
فروى ابن جرير عن عكرمة قال : " قوله : ( ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا أو قال
أوحي إليّ ولم يوح إليه شيء) ، قال : نزلت في مسيلمة ، وقوله : (ومن قال سأنزل مثل
ما أنزل الله) ، نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح ، كان كتب للنبي صلى الله عليه
وسلم ، وكان فيما يملي "عزيز حكيم"، فيكتب "غفور رحيم" ، فيغيره ، ثم يقرأ عليه "
كذا وكذ ا"، لما حوَّل ، فيقول : " نعم ، سواءٌ ". فرجع عن الإسلام ولحق بقريش وقال
لهم : لقد كان ينزل عليه "عزيز حكيم" فأحوِّله ، ثم أقرأ ما كتبت، فيقول: " نعم
سواء "! ثم رجع إلى الإسلام قبل فتح مكة " .
"تفسير الطبري" (11/ 533) .
وممن ذكر أنها نزلت في ابن
أبي السرح : الخطابي كما في "معالم السنن" (2/287) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية كما في
"مجموع الفتاوى" (3/ 291) ، و "الصارم المسلول" (ص 115) ، والقرطبي كما في "تفسيره"
(7/ 40) ، حتى قال ابن جرير رحمه الله :
" ولا تمانُع بين علماء الأمة أن ابن أبي سرح كان ممن قال: "إني قد قلت مثل ما قال
محمد" ، وأنه ارتدّ عن إسلامه ولحق بالمشركين، فكان لا شك بذلك من قيله مفتريًا
كذبًا " انتهى من "تفسير الطبري" (11/ 536) .
وكل ما ورد بشأن ذلك من حيث الصناعة الحديثية لا يصح منه شيء ، والذي ثبت أنه كان يقول : ( مَا يَدْرِى مُحَمَّدٌ إِلاَّ مَا كَتَبْتُ لَهُ ) رجل آخر غير ابن أبي السرح ، وغاية ما ثبت في حق ابن أبي السرح أنه ارتد ، ثم إنه عاد إلى الإسلام وتاب وحسنت توبته ، انظر إجابة السؤال رقم : (168773) .
ثانيا :
الآية عامة ، سواء ثبت دخول ابن أبي السرح فيها أو لم يثبت ، فلا أحد أظلم ممن
افترى على الله كذبا ، أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ، ومن قال سأنزل مثل ما
أنزل الله ؛ فمن كان من أهل ذلك ومات عليه : لحقه الذم ، وخلده الله في النار ، ومن
كان من أهل ذلك ثم تاب وأصلح : تاب الله عليه .
قال الطبري رحمه الله :
" قد دخل في هذه الآية كل من كان مختلقًا على الله كذبًا، وقائلا في ذلك الزمان وفي
غيره : "أوحى الله إلي"، وهو في قيله كاذب ، لم يوح الله إليه شيئًا ، فأما التنزيل
، فإنه جائز أن يكون نزل بسبب بعضهم ، وجائز أن يكون نزل بسبب جميعهم ، وجائز أن
يكون عني به جميع المشركين من العرب ، إذ كان قائلو ذلك منهم ، فلم يغيّروه ،
فعيّرهم الله بذلك ، وتوعّدهم بالعقوبة على تركهم نكيرَ ذلك ، ومع تركهم نكيرَه :
هم بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم مكذبون ، ولنبوّته جاحدون، ولآيات كتاب الله
وتنزيله دافعون ، فقال لهم جل ثناؤه : "ومن أظلم ممن ادّعى عليّ النبوّة كاذبًا "،
وقال: "أوحي إلي"، ولم يوح إليه شيء، ومع ذلك يقول : " ما أنزل الله على بشر من شيء
" ، فينقض قولَه بقوله ، ويكذب بالذي تحققه ، وينفي ما يثبته. وذلك إذا تدبره
العاقلُ الأريب : علم أن فاعله من عقله عديم " .
انتهى من " تفسير الطبري " (11/ 536) .
وإذا ثبت أن ابن أبي السرح
كان من أهل هذه الآية ، فقد ثبت أيضا ، أن الله تعالى قد أحسن إليه بعد ذلك ، وتاب
عليه ، فصار من أهل عموم قوله تعالى : ( إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ
عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ
اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الفرقان/ 70 .
وقد اتفق أهل العلم على أنه رجع إلى الإسلام وحسنت توبته رضي الله عنه ، فهو بذكر
هذا الثناء الحسن أولى ؛ لأن الإسلام يجبّ ما قبله ، والتوبة تجبّ ما قبلها .
والله أعلم .