قرأت أن معجزة نوح كانت الطوفان فكيف ذلك والطوفان حصل بعد تكذيبهم.. والمعروف أن المعجزة تأتي مع النبي حتى يصدقه الناس؟!
وكذلك شعيب.. وهود عليهم السلام جميعا.. فما هي معجزة كل رسول من هؤلاء ؟
الحمد لله.
أولا :
ما من نبي إلا وقد آتاه الله تعالى آية بينة تدل على صدق ما جاء به ، يقيم بها الحجة على كل من خالفه .
روى البخاري (4981) ، ومسلم (152) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا قَدِ اُعْطِيَ مِنَ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَى اللهُ إِلَيَّ ، فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ) .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
” قَوْله : ( مَا مِنْ الْأَنْبِيَاء نَبِيّ إِلَّا أُعْطِيَ ) : هَذَا دَالّ عَلَى أَنَّ النَّبِيّ لَا بُدّ لَهُ مِنْ مُعْجِزَة تَقْتَضِي إِيمَان مَنْ شَاهَدَهَا بِصِدْقِهِ , وَلَا يَضُرّهُ مَنْ أَصَرَّ عَلَى الْمُعَانَدَة .
وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ آيَة أَوْ أَكْثَر ، مِنْ شَأْن مَنْ يُشَاهِدهَا مِنْ الْبَشَر أَنْ يُؤْمِن بِهِ لِأَجْلِهَا , وَالْمُرَاد بِالْآيَاتِ : الْمُعْجِزَات ، وكُلّ نَبِيّ أُعْطِيَ مُعْجِزَة خَاصَّة بِهِ ، لَمْ يُعْطَهَا بِعَيْنِهَا غَيْره ، تَحَدَّى بِهَا قَوْمه, وَكَانَتْ مُعْجِزَة كُلّ نَبِيّ تَقَع مُنَاسِبَة لِحَالِ قَوْمه”
انتهى مختصرا من ” فتح الباري لابن حجر (9/ 6) ” .
ثانيا :
لا يلزم أن ينص القرآن أو السنة على معجزة كل نبي ، فهذه المعجزة لم تأت إلينا نحن ، ولا يترتب على معرفتنا بها عمل ، ولسنا مطالبين بالإيمان بالأنبياء الصادقين ، لأجل معجزاتهم ؛ فإنها مضت معهم ، وانقضى زمانها ، وإنما نؤمن بالأنبياء السابقين ، لأجل الخبر الصادق في كتاب الله ، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، عنهم .
والذي يعنينا أن نعلم أن نبي الله نوحا ، ونبي الله هودا ، وغيرهما من أنبياء الله : قد أرسلوا إلى أقوامهم ، وأنهم أتوهم بالحجج والبينات الكافية لتصديقهم ، والإيمان بهم ، قد نعلم ببعض آياتهم ، وقد لا نعلم بها ، كما أننا نعلم من أسماء الأنبياء وأحوالهم ، ما أتانا به الخبر الصادق ، ونجهل ـ كذلك ـ من أسماء أنبياء الله وسيرهم ، ما لم يخبرنا به الوحي الصادق .
قال الزجاج رحمه الله :
” قوله : (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ) قال بعض النحويين؛ لم يكن لشعيب آية إِلا النبوة ، وهذا غلط فاحش .
قال : (قد جاءَتكم بينة من ربكم فأوفوا الكيل) فجاءَ بالفاءَ جواباً للجزاء ، فكيف يقول : قد جاءَتكم بينة من ربكم ، ولم يكن له آية إِلا النبوة ؟ فإن كان مع النبوة آية فقد جاءَهم بها.
وقد أخطأ القائل بقوله : لم تكن له آية ، ولو ادَّعَى مُدَّعٍ النبوة بغير آية لم تُقْبَلْ منه ، ولكن القول في شعيب أن آيته كما قال بينَة ، إِلا أن الله جل ثناؤه ذكر بعض آيات الأنبياءِ في القرآن ، وبعضهم لم يذكر آيته ، فمن لم تذكر آيته لا يقال : لا آية له ” انتهى من “معاني القرآن” (2/ 353-354) .
وينظر : ” تفسير ابن عطية ” (2/ 426) .
ثالثا :
كانت معجزة نبي الله نوح عليه السلام صنع السفينة على اليابسة ، ثم سيرها فوق هذه الأمواج التي كانت كالجبال ، وقد كان أنذر قومه الطوفان .
قال ابن كثير رحمه الله بعد أن ذكر كرامة لأبي مسلم الخولاني رحمه الله :
” وَهِيَ مُشَابِهَةٌ لِمُعْجِزَةِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فِي مَسِيرِهِ فَوْقَ الْمَاءِ بِالسَّفِينَةِ الَّتِي أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِعَمَلِهَا ” انتهى من “البداية والنهاية” (9/ 317) .
ولا يعترض على ذلك بما يقوله السائل أن الطوفان حصل بعد تكذيبهم ، والمعجزة تأتي مع النبي حتى يصدقه الناس ؛ لأنه يقال في جوابه : إنه صلى الله عليه وسلم قد حذرهم وأنذرهم وتوعدهم ، فلما جاءهم ما يوعدون أصروا واستكبروا ولم يؤمنوا ، ولو أنهم آمنوا ساعتئذ لصح إيمانهم ، ألا ترى إلى مناشدة نوح عليه السلام ابنه وقوله له : (يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ) هود/ 42 ، فلو أنه ركب معهم لكان من المؤمنين ولم يكن من الكافرين ، وكذلك غيره ، فالمعجزة إذاً حاصلة في وقتها ، ولم تحصل بعد أوانها .
ثم إنه كان من أعظم آياته وبيناته التي آتاه الله إياها : بيانه الواضح ، وحجاجه الصحيح لهم ، كما في قوله تعالى : وقال تعالى : ( قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ) هود/ 28 – 32 ، وقد تكرر خبر حجاجه لهم في غير سورة من سور القرآن الكريم .
على أن ذلك كله لا يمنع أن يكون قد أتاهم بآية بينة ، لم نقف على خبرها وكنهها ، كما سبق .
وينظر إجابة السؤال رقم : (10470) .
ومثل هذا يقال أيضا في نبي الله هود ، ونبي الله شعيب ، عليهما السلام ؛ فإما أن تكون لكل منهما معجزة لم نطلع نحن عليها ، ولم يخبرنا الله بها ، كما سبق في كلام الزجاج ، وإما أن تكون معجزته في حجاجه لقومه ، ومخاصمته لهم ، وظهوره عليهم بالحكمة ، وعظيم البيان .
قال ابن أبي العز الحنفي رحمه الله :
” مِنْ أَخْفَى آيَاتِ الرُّسُلِ آيَاتُ هُودٍ ، حَتَّى قَالَ لَهُ قَوْمُهُ : (يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ) ، وَمَعَ هَذَا فَبَيِّنَتُهُ مِنْ أَوْضَحِ الْبَيِّنَاتِ لِمَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ لِتَدَبُّرِهَا ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ : (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) ؛ فَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْآيَاتِ :
أَنَّ رَجْلًا وَاحِدًا يُخَاطِبُ أُمَّةً عَظِيمَةً بِهَذَا الْخِطَابِ، غَيْرَ جَزِعٍ وَلَا فَزِعٍ وَلَا خَوَّارٍ، بَلْ هُوَ وَاثِقٌ بِمَا قَالَهُ، جَازِمٌ بِهِ، فَأَشْهَدَ اللَّهَ أَوَّلًا عَلَى بَرَاءَتِهِ مِنْ دِينِهِمْ ، وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، إِشْهَادَ وَاثِقٍ بِهِ مُعْتَمِدٍ عَلَيْهِ، مُعْلِمٍ لِقَوْمِهِ أَنَّهُ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ ، وَغَيْرُ مُسَلِّطٍ لَهُمْ عَلَيْهِ.
ثُمَّ أَشْهَدَهُمْ إِشْهَادَ مُجَاهِرٍ لَهُمْ بِالْمُخَالَفَةِ : أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ دِينِهِمْ وَآلِهَتِهِمُ الَّتِي يُوَالُونَ عَلَيْهَا ، وَيَبْذُلُونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي نُصْرَتِهِمْ لَهَا، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ بِالِاسْتِهَانَةِ بهمْ، وَاحْتِقَارِهِمْ وَازْدِرَائِهِمْ ، وَلَوْ يَجْتَمِعُونَ كُلُّهُمْ عَلَى كَيْدِهِ وَشِفَاءِ غَيْظِهِمْ مِنْهُ، ثُمَّ يُعَاجِلُونَهُ وَلَا يُمْهِلُونَهُ : لم يقدروا على ذلك إلا ما كتبه الله عليه.
ثُمَّ قَرَّرَ دَعْوَتَهُمْ أَحْسَنَ تَقْرِيرٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ رَبَّهُ تَعَالَى وَرَبَّهُمُ الَّذِي نَوَاصِيهِمْ بِيَدِهِ هُوَ وَلِيُّهُ وَوَكِيلُهُ الْقَائِمُ بِنَصْرِهِ وَتَأْيِيدِهِ، وَأَنَّهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، فَلَا يَخْذُلُ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ وَأَقَرَّ بِهِ، وَلَا يُشْمِتُ بِهِ أَعْدَاءَهُ.
فَأَيُّ آيَةٍ وَبُرْهَانٍ أَحْسَنُ مِنْ آيَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَبَرَاهِينِهِمْ وَأَدِلَّتِهِمْ؟ وَهِيَ شَهَادَةٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بَيَّنَهَا لِعِبَادِهِ غَايَةَ الْبَيَانِ ” انتهى من “شرح الطحاوية” (ص 47) .
وقال القاسمي رحمه الله ، في قول شعيب عليه السلام : (قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) :
” ( قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ) أي ما تبيّن به الحق من الباطل ، يعني : دعوته وإرشاده ، ومن هنا قال بعضهم : عني بالبينة : مجيء شعيب، وأنه لم تكن له آية إلا النبوة .
ومن فسر البينة بالحجة والبرهان ، والمعجزة المحسوسة ، ذهابا إلى أن النبيّ لما كان يدعو إلى شرع يوجب قبوله، فلا بد من دليل يعلم صدقه به، وما ذاك إلا المعجزة ، قال : إن معجزة شعيب لم تذكر في القرآن، وليست كل آيات الأنبياء مذكورة في القرآن.
ولا يخفى أن البينة : أعم من المعجزة بعرفهم ؛ فكل من أُبطِلت شبهةُ ضلاله، وأُظهرت له حجة الحق الذي يدعى إليه ، فقد جاءته البينة ؛ لأن حقيقة البينة : كل ما يُبِينُ الحقَّ ؛ فاحفظه ” انتهى من “تفسير القاسمي” (5/ 146) .
والله أعلم .