الحمد لله.
فقوله تعالى : ( مَا نَقَصَ
ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ
) المقصود منه تحقيق عدم النقص وتأكيده ، فكما أن المخيط إذا أدخل البحر ثم أخرج
منه لم ينقص من ماء البحر شيئا ، فكذلك : لو أعطى الله كل واحد من الجن والإنس
مسألته لم ينقص ذلك مما عنده شيئا .
وهذا أسلوب من أساليب تأكيد الكلام في اللغة العربية ، وهو تأكيد الكلام بما يشبه
النفي ، فإن السامع إذا سمع : لا ينقص إلا كذا ... يظن لأول وهلة أنه ينقص ، ولكنه
عندما يستمع باقي الكلام يدرك أن المقصود به تأكيد عدم النقص .
قال النووي رحمه الله :
" مَعْنَاهُ : لَا يُنْقِصُ شَيْئًا أَصْلًا ، كَمَا قَالَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ
: ( لَا يَغِيضُهَا نَفَقَة ٌ) أَي : لَا يَنْقُصُهَا نَفَقَةٌ ؛ لِأَنَّ مَا
عِنْدَ اللَّهِ لَا يَدْخُلُهُ نَقْصٌ ... فَضَرَبَ الْمَثَلَ بِالْمِخْيَطِ فِي
الْبَحْرِ ، لِأَنَّهُ غَايَةُ مَا يُضْرَبُ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْقِلَّةِ ،
وَالْمَقْصُودُ التَّقْرِيبُ إِلَى الْإِفْهَامِ بِمَا شَاهَدُوهُ ، فَإِنَّ
الْبَحْرَ مِنْ أَعْظَمِ الْمَرْئِيَّاتِ عَيَانًا وَأَكْبَرِهَا ، وَالْإِبْرَةُ
مِنْ أَصْغَرِ الْمَوْجُودَاتِ ، مَعَ أَنَّهَا صَقِيلَةٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا
مَاءٌ " انتهى من " شرح النووي على مسلم " (16/133) .
وقال ابن رجب رحمه الله :
" وَقَوْلُهُ : " ( لَمْ يَنْقُصْ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ
الْمِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ الْبَحْرَ ) تَحْقِيقٌ ؛ لِأَنَّ مَا عِنْدَهُ لَا
يَنْقُصُ الْبَتَّةَ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ( مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا
عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ ) النحل/ 96 ، فَإِنَّ الْبَحْرَ إِذَا غُمِسَ فِيهِ إِبْرَةٌ
، ثُمَّ أُخْرِجَتْ لَمْ يَنْقُصْ مِنَ الْبَحْرِ بِذَلِكَ شَيْءٌ ، وَكَذَلِكَ
لَوْ فُرِضَ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْهُ عُصْفُورٌ مَثَلًا ، فَإِنَّهُ لَا يَنْقُصُ
الْبَحْرَ الْبَتَّةَ ، وَلِهَذَا ضَرَبَ الْخَضِرُ لِمُوسَى عَلَيْهِمَا
السَّلَامُ هَذَا الْمَثَلَ فِي نِسْبَةِ عِلْمِهِمَا إِلَى عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ فقال له : ( مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللهِ إِلَّا
مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ مِنَ الْبَحْرِ ) ، وَهَذَا لِأَنَّ
الْبَحْرَ لَا يَزَالُ تَمُدُّهُ مِيَاهُ الدُّنْيَا وَأَنْهَارُهَا الْجَارِيَةُ ،
فَمَهْمَا أُخِذَ مِنْهُ لَمْ يَنْقُصْهُ شَيْءٌ ، لِأَنَّهُ يَمُدُّهُ مَا هُوَ
أَزْيَدُ مِمَّا أُخِذَ مِنْهُ " انتهى من " جامع العلوم والحكم " (2/49) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه
الله :
" ولننظر إلى المخيط غمس في البحر ، فإذا نزعته لا ينقص البحر شيئا أبدا ، ومثل هذه
الصيغة يؤتى بها للمبالغة في عدم النقص ؛ لأن عدم نقص البحر في مثل هذه الصورة أمر
معلوم ، فمستحيل أن البحر ينقص بهذا ، فمستحيل أيضا أن الله عز وجل ينقص ملكه إذا
قام كل إنسان من الإنس والجن ، فقاموا فسألوا الله تعالى ، فأعطى كل إنسان مسألته ،
ما نقص ذلك من ملكه شيئا " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (8/ 250) .
وقال رحمه الله – أيضا - :
" قول الله عز وجل في الحديث القدسي : ( يا عبادي : لو أن أولكم وآخركم وإنسكم
وجنكم ، قاموا في صعيد واحد ، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته ، ما نقص ذلك مما
عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر ) .
هل ينقص ؟ لا ، لكن هذا من باب تأكيد الشيء بما يشبه النفي ، ( ما نقص إلا .... )
تتوقع أنه سيأتي شيء بيِّن أنه ناقص ، قال : إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر
" انتهى .
http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=127737
إذن فمعنى الحديث : تأكيد أن
ما عند الله تعالى لا ينقص أبدا ، ولا يقال إن هذا مجاز ، بل هذا هو ظاهر اللفظ وما
يدل عليه .
والله أعلم .