الحمد لله.
أما مناقشة ما تتعرض له المرأة بسبب الطلاق من إشكاليات اقتصادية ، أو أزمات مالية ، فهذه قضية أخرى ، لا تؤثر على " استقلال الذمة "، فالفقر والعوز والعول يمكن أن يصيب الرجل ، ويمكن أن ينال المرأة أيضا ، ولم يقل أحد إن وقوعه ، أو التقصير في علاجه مؤثر على " الشخصية المالية المستقلة ".
ومع ذلك لا بد من تذكير
السائلة بأن الشريعة الإسلامية لم تترك المرأة فريسة للفقر ، أو الضياع المالي ،
حال طلاقها ، بل شرعت من أدوات العلاج ما يمكنها من استئناف حياتها الكريمة ،
وتجاوز فراقها من زوجها ، وذلك من خلال :
1. حقها في المهر ، المعجل والمؤجل ، وخاصة إذا وقع الطلاق فقد حل المؤجل ، وهو في
غالب عادات الناس مبلغ متوسط يمكِّنُ المرأة من النهوض بنفسها ، والتفكر في تأمين
دخل كاف لحاجاتها عبر هذا الحق . يقول الله سبحانه وتعالى : ( وَآتُوا النِّسَاءَ
صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً ) النساء/4.
2. حقها في المتعة ، عند بعض أهل العلم . وهي مبلغ زائد على المهر ، تقرره أكثر
المحاكم الشرعية ، سواء باسم المتعة ، أو باسم " جبر الضرر "، ويرجع إلى القاضي في
تقديره بما يتناسب وتغيرات الزمان وحال الزوج عسرا ويسرا ، وأصله قول الله سبحانه
وتعالى : ( وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ ) البقرة/236، وقال
تعالى : ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ )
البقرة/241 ، فالأمر راجع لحال الزوج يسارا وإعسارا .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"وتجب المتعة لكل مطلقة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وهو ظاهر القرآن" .
انتهى من "الاختيارات " (ص 341) .
وقد اجتهد العلماء قديما في تقدير المتعة ، وكانت اجتهاداتهم مناسبة لعصرهم ، ففي
كل عصر يجتهد علماؤه وقضاته في تقديرها .
قال الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله :
"القاضي هو الذي يتولى تقدير المتعة على حسب حال الزوج من غنى وفقر.
...
قال الفقهاء: أعلاها خادم، يعني يشتري لها مملوكة تخدمها، وأدناها كسوة تستر عورتها
في الصلاة، وهذا الذي ذكروه قد يكون موافقاً لواقعهم، لكن الله سبحانه في القرآن ما
قدرها بهذا، ومعلوم أن هناك فرقاً عظيماً بين الخادم والكسوة التي تستر عورتها،
فالخادم ربما يساوي أكثر من مهر المثل ثلاث مرات، أو أربعة، والكسوة في الصلاة ليست
بشيء، وعلى كل حال فقوله تعالى: (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ
قَدَرُهُ) تنبني في كل زمان ومكان على حسب ما يليق، يقال للغني: يُفرض عليك شيء
بقدرك، ويقال للفقير: يُفرض عليك شيء بقدرك" .
انتهى من "الشرح الممتع" (12/302، 307) .
وينظر جواب رقم: (126281) .
3. ولها أيضا على مطلقها في مدة عدتها : حق النفقة الوافية لجميع حاجاتها من مسكن
وملبس ومطعم ، في حال كونها رجعية ، أو حاملا ، مع بعض القيود والشروط والخلاف .
كما لها حق الأجرة على رضاع ولده وحضانة أبنائه ورعايتهم وتربيتهم ، ودليل ذلك قوله
تعالى : ( وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ
لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ
مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ ) البقرة/233.
يقول ابن قدامة رحمه الله : " الأم إذا طلبت إرضاعه بأجر مثلها ، فهي أحق به ، سواء
كانت في حال الزوجية أو بعدها " انتهى من " المغني " (8/250) .
4. ثم إن حقها في العمل والاتجار بمالها واستثماره باق ، لا يتأثر بطلاقها أو وفاة
زوجها عنها ، تماما كحق الرجل في ذلك ، وفي حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لخالته المطلقة: ( بَلَى فَجُدِّي نَخْلَكِ ،
فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي ، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا ) رواه مسلم (1483)
فانظري كيف حثها على العمل لعلها تجد من واسع رزق الله ما تتصدق به ، وتصنع به
المعروف للناس ، فاليد العليا خير من اليد السفلى كما أخبر عليه الصلاة والسلام ،
وهذا يصدق على النساء أيضا ، لكن في العمل المباح المنتج للخير.
5. وأخيرا ، إذا لم تكفها الحلول السابقة ، صار واجبا على والدها أو إخوانها أو
أقاربها النفقة عليها وكفايتها شأنها ، وبات حقها مؤكدا في بيت مال المسلمين ، من
مصارف الزكاة أو الموارد المخصصة لتأمين أمثالها ممن انقطعت بهم السبل ، والأهم أن
تبلغ السياسة الإدارية لبيت المال من النجاح ما يمكنها من تغطية جميع هذه الحالات ،
وتأمين الرعية بما يكفيها مؤونة المسألة والحاجة ، وفي الخلافة الراشدة ، وعهود
العدل العمرية ، نماذج مضيئة لهذا المقصد الذي جاءت به الشريعة .
ولا يظهر بعد هذا التقرير أن هناك إشكال في علاج الفقه الإسلامي لحال المرأة بعد طلاقها أو موت زوجها، والمهم حسن التفقه ، والتأمل في التدابير المجتمعية والقانونية التي تكفل حفظ حقوق المرأة في البلاد الإسلامية وتطبيق مقتضيات الشريعة الإسلامية في ذلك .
أما حكم تصدق الزوجة من مال زوجها ، فقد سبق بيانه في الجواب رقم : (73219)
والله أعلم .