الحمد لله.
وبعد التأمل في ما يمكن أن يستدل له لكلا القولين ، يتبين أن الراجح هو القول
الأول ، إذ يمكن الاستدلال له بدليلين ظاهرين :
الدليل الأول :
أنه يعضده سياق الآيات ، فهو يتحدث عن نظرة المشركين إلى الأنثى من الجهة العقائدية
، حيث جعلوهن بنات الله ، ومن الجهة المجتمعية حيث نسبوا إليهن النقص والعيب والعار
، وهذا سياق الآيات : ( أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ
بِالْبَنِينَ . وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ
وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ . أَوَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ
فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ . وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ
الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ )
الزخرف/16-19.
ولا شك أن تفسير الآية بما يناسب السياق ، ويتوافق معه : أولى من قطع معناها عن
سِباقها ولِحاقها .
يقول الإمام الطبري رحمه الله :
" أولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عُنِي بذلك الجواري والنساء ؛ لأن ذلك
عقيب خبر الله عن إضافة المشركين إليه ما يكرهونه لأنفسهم من البنات ، وقلة معرفتهم
بحقه ، وتحليتهم إياه من الصفات والبخل ، وهو خالقهم ومالكهم ورازقهم ، والمنعم
عليهم النعم التي عددها في أول هذه السورة ؛ ما لا يرضونه لأنفسهم ، فإتباع ذلك من
الكلام ما كان نظيرا له، أشبه وأولى من إتباعه ما لم يجر له ذكر " انتهى من " جامع
البيان " (21/580) .
وقال أبو إسحاق الزجاج رحمه الله :
" الأجود أن يكون : يعني به المؤنث " انتهى من " معاني القرآن " (4/407) .
ولو رجحنا القول الثاني الذي يقصد الأوثان ، لتخللت هذه الأوثان في سياق آيات قبلها
تتحدث عن الإناث ، وآيات بعدها تتحدث عن الإناث أيضا في عقائد المشركين ، وهو
انقطاع في المعنى والسياق لا يليق ، لذلك كان القول الأول هو الأرجح .
الدليل الثاني :
قوله تعالى : ( وهو في الخصام غير مبين ) ، فالأنثى تخاصم ، ولكنها لا تظهر في
حجتها ولا في قوة خصامها .
أما الأوثان فلا يخاصمون أبدا ، لا خصاما مبينا ، ولا غير مبين .
يقول أبو حيان الأندلسي رحمه الله :
" ويبعد هذا القول [يعني القول الثاني] قوله : ( وهو في الخصام غير مبين ) ، إلا إن
أريد بنفي الإبانة : نفي الخصام ، أي : لا يكون منها خصام " .
انتهى من " البحر المحيط في التفسير " (9/ 363) .
وأما الاستدلال على ترجيح القول الثاني بأن الضمير في قوله تعالى ( وهو في
الخصام ) للمذكر ، وهذا لا يناسب تفسير الآية بالإناث ؛ فهذا استدلال خاطئ من جهة
اللغة وقواعدها ، ولم يحتج به ( ابن زيد ) رحمه الله .
فالضمير ( هو ) يعود على ( من ) الموصولة في أول الآية ( أَوَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي
الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ )
و ( من ) الموصولة يجوز أن يعود الضمير عليها بصيغة التذكير ، باعتبار أن لفظ ( من
) مذكر ، حتى لو كان معناها هو المؤنث ، فالعرب قد تقصد تذكير اللفظ ولا تلتفت
للمعنى .
ويجوز أن يعود الضمير بصيغة التأنيث ، إذا كان معناها يدل على الأنثى .
يقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" تذكير ضمير ( وهو في الخصام ) مراعاةً للفظ ( مَن ) الموصولة " .
انتهى من " التحرير والتنوير " (25/182) .
ويشبه هذا أيضا : (مَنْ) الشرطية ، فإن لفظها مذكر ، وقد يكون مدلولها مؤنثا .
تأمل معنا قول الله عز وجل : ( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ
وَتَعْمَلْ صَالِحًا ) الأحزاب/31 ، لماذا استعمل صيغة التذكير في الفعل ( يقنت ) ،
رغم أن ( مَن ) المقصود بها هنا أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ؟
وجواب ذلك ، هو ما ذكرناه آنفا من أن ذلك أمر معروف ، شائع في لغة العرب . والملحظ
فيه تذكير لفظ ( مَن ) ؛ بل هذا هو الكثير المستعمل في القرآن .
يقول الأخفش رحمه الله :
" ( يَقْنُتْ ) فجعله على اللفظ ؛ لأن اللفظ في ( مَن ) مذكّر ، وجعل ( تَعْمَلْ )
و ( نُؤْتِهَآ ) على المعنى " انتهى من " معاني القرآن " (1/37) ، وانظر " معاني
القرآن " للزجاج (4/228) .
ويقول ابن خالويه :
" ذكّر على لفظ ( مَن ) وهو يريد نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : ( وتعمل
صالحا ) فأنّث " انتهى من " ليس في كلام العرب " (ص220) .
ويقول الزمخشري رحمه الله – عن الاسم الموصول ( من ) -:
" توقع على الواحد والاثنين والجمع ، والمذكر والمؤنث . ولفظها مذكر ، والحمل عليه
هو الكثير .
وقد يحمل على المعنى . وقرئ قوله تعالى : ( وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا ) [الأحزاب: 31]، بتذكير الأول ، وتأنيث الثاني .
وقال تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ) [يونس: 42]. وقال الفرزدق
: نكن مثل من يا ذئب يصطحبان " انتهى من " المفصل في صنعة الإعراب " (ص: 187).
وانظر " معاني القرآن " للفراء (2/111) ، " الأصول في النحو " للسراج (2/396) .
وشرح كلام الزمخشري هذا العلامة ابن يعيش رحمه الله فقال :
" اعلم أن ( مَنْ ) لفظُها واحدٌ مذكرٌ ، ومعناها معنى الجنس لإبهامها ، تقع على
الواحد والاثنين والجماعة ، والمذكر والمؤنث .
فإذا وقعتْ على شيء من ذلك ، ورددتَ إليها الضميرَ العائد من صلتها ، أو خبرِها على
لفظها نفسِها ، كان مفردًا مذكّرًا ؛ لأنه ظاهرُ اللفظ ، سواء أردتَ واحدًا مذكرًا
، أو مؤنثًا ، أو اثنين ، أو جماعةٌ .
وإن أعدتَ الضمير إليها على معناها ، فهو على ما يقصِده المتكلمُ من المعنى .
فأمّا ما أُعيد إليه على اللفظ فنحو قوله تعالى : ( وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ
إِلَيْكَ )، وقوله : ( وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا )، ( وَمَنْ
يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ )، وعليه أكثرُ الاستعمال ...
وأما المؤنّث ، فنحو قولهم فيما حكاه يونس : " مَنْ كانت أُمَّك "، أُنّث " كَانَتْ
" حيث كان فيها ضميرُ " مَنْ " وكان مؤنثًا ؛ لأنه هو الأمُّ في المعنى .
ومن ذلك قراءةُ الزعْفَراني ، والجَحْدَري : ( وَمَنْ تَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ
وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا )، بالتاء فيهما ، حيث أراد واحدة من النساء ، جعل
صلته ، إذ عني المؤنّث : كصلة "التي". وقرأ حَمزَةُ والكِسائي: ( يَقْنُتْ ويعْمَلْ
) بالياء على التذكير حملًا على اللفظ فيهما .
وقرأ الباقون من السبعة : ( يَقْنُتْ ) بالتذكير على اللفظ ، و ( تَعْمَلْ )
بالتأنيث على المعنى " انتهى من " شرح المفصل لابن يعيش " (2/ 415) .
وهذا الجواب اللغوي - كما ترى – دقيق قد يخفى مثله على من يتجرأ على التفسير ،
ويتحدث فيه من منطلق آرائي محض ، وليس من منطلق موضوعي ، أو تأصيل علمي ، أو تأويل
مأثور عن العلماء الأولين .
وأما باقي ما ورد في السؤال ، في تفسير حديث ( ناقصات عقل )، وقضية مساواة المرأة
بالرجل ، فقد سبق الخوض فيها بالتفصيل في موقعنا ، في الفتوى رقم : (111867) ،
(115534) .
ولسنا في صدد متابعة مقاطع الفيديو ، وإعداد الردود على ما ورد في كل كلمة
منها ، وإنما مقصدنا الحديث عن المسألة العلمية بتجرد وموضوعية .
والله أعلم .